(الصفحة 170)
عنه لمشقّته بكثرته ، على أنّه لو سلم الحرجية في الجملة فسبب ذلك بعض الأفراد أو أكثرها ، وأقصاه السقوط فيما يتحقّق الحرج به دون غيره ، كما هو ظاهر الأستاذ في كشف الغطاء في أوّل كلامه بل صريحه .
ودعوى الاجماع المركّب الذي هو حجّة في مثل هذه المسائل عهدتها على مدّعيها ، بل قد يقال بوجوب ترجيح إطلاق أدلّة المقام على دليل الحرج ، بناءً على قبوله لذلك ، كما أخرج عنه فيما لو كان مقدار هذا المكرّر معلوم الفوات ، بل قد يقال بعدم شمول دليل الحرج للمقام أصلا ، إذ المراد نفيه في الدين لا ما يوجبه العقل عند الاشتباه للمقدّمية ، انتهى(1) .
أقول:
المهم في المقام ملاحظة أنّ صدر رواية زرارة المتقدّمة الذي يكون دليلا منحصراً في هذا الباب هل يدلّ على إطلاق وجوب مراعاة الترتيب ، وأنّه لا يختص بالعالم بعد تسليم ظهوره في أصل اعتبار الترتيب في الجملة ، أو لا يدلّ على ذلك؟ ضرورة أنّه مع دلالته على ذلك لا مجال للتمسّك بالأصل ، وكذا بحديث: «إنّ الناس في سعة ما لم يعلموا»(2) .
نعم ، لو فرض استلزام التكرار للحرج في مورد يسقط الترتيب بالنسبة إلى ما يتحقّق به الحرج دون غيره ، لحكومة دليل الحرج على الأدلّة الدالّة على الأحكام بالعناوين الأولية ، كما قد حقّق في محلّه ، والقول بوجوب ترجيح إطلاق أدلّة المقام على دليل الحرج ناش من قلّة التأمّل ، وعدم رعاية النسب الواقعة بين الأدلّة ، والخلط بين التعارض والحكومة ، فهذا القول ممّا لا ينبغي توهّمه أصلا .
هذا ، وقبل التأمّل في دلالة صدر الرواية على الاطلاق وعدمه نلاحظ حال المسألة بحسب مقام الثبوت ونقول:
- (1) جواهر الكلام 13: 24 ـ 25 .
- (2) عوالي اللالئ 1: 424 ح109 .
(الصفحة 171)
القول باعتبار الترتيب في الفوائت ، بعضها بالنسبة إلى بعض ، قد يجتمع مع القول باعتباره في المسألة المتقدّمة ، وهي مسألة الحاضرة والفائتة ، وقد يجتمع مع القول بعدم دخالة الفائتة في صحة الحاضرة .
فعلى الأول: يكون مرجع هذا القول إلى أنّ الصلوات اليوميّة الواقعة في الأزمان المختلفة المتعاقبة المترتّبة ، كما أنّها متأخّرة تكويناً بعضها عن بعض ـ تبعاً لظروفها الزمانية التي يكون بعضها سابقاً على البعض الآخر ذاتاً وأصالةً ـ كذلك يكون هذا التأخر شرطاً شرعيّاً لصحة اللاحقة ، فصلاة الظهر كما أنّها مشروطة بوقوعها في الزمان الذي يتأخّر تكويناً عن الزمان الذي هو ظرف وقوع فريضة الصبح ، كذلك يكون تأخّرها عن فريضة الصبح شرطاً شرعيّاً لصحّتها ، بحيث لا يكاد يمكن أن تتحقّق بدونها .
وعلى الثاني: الذي يكون مرجعه إلى التفصيل بين المسألتين ، والقول بعدم اعتبار الترتيب بين الحاضرة والفائتة واعتباره بين الفوائت كما هو المعروف بين المتأخّرين ، يكون مرجع اعتبار الترتيب إلى عدم كون الصلاة المتقيّدة بالوقوع في الزمان المتأخّر مشروطة بوقوع الصلاة التي ظرفها الزمان المتقدّم وتحقّقها ، بل وصف الفوت له مدخلية في هذه الجهة ، وأنّ اجتماع الفوائت يوجب زيادة شرط على الشروط ، من دون أن يكون هذا الشرط معتبراً في غيرها .
وحينئذ نقول: اعتبار الترتيب عند الجهل أيضاً بناءً على الأول لا يحتاج إلى مؤونة كثيرة ، بل الظاهر على فرض ثبوت هذا القول ، إطلاق وجوب الترتيب وعدم اختصاصه بصورة العلم ، بحيث لو فرض قصور الدليل عن الشمول لصورة الجهل لكان مقتضى مفهوم الموافقة الذي هو عبارة اُخرى عن إلغاء الخصوصية ، تعميمه بحيث يشمل صورة الجهل أيضاً ، وذلك لأنّه بعدما علم العرف باشتراط صحة اللاحقة شرعاً بوقوع السابقة قبلها من جهة قيام الدليل ، لا يرى في ذلك
(الصفحة 172)
فرقاً بين العالم والجاهل كما لا يخفى .
وأمّا بناءً على الوجه الثاني ، حيث يكون اشتراط ذلك حادثاً عند اجتماع الفوائت ، لأنّ المفروض مدخلية وصف الفوت في ذلك يحتاج إطلاق القول بالاعتبار إلى دليل قويّ ، ولا يكاد يفهم العرف من الدليل لو فرض اختصاصه بصورة العلم أنه لا مدخلية للعلم في ذلك ، لأنّه حيث لا يكون هذا المعنى قريباً إلى فهم العرف ، لأنّ مدخلية وصف الفوت في إحداث شرط زائد من دون أن تكون السابقة مطلقاً شرطاً لصحّة اللاحقة ، وعدم كونها مشروطة بتأخّرها عنها ، أمر بعيد عن أذهانهم ، فإذا كان الدليل على ذلك الشرط ظاهراً في خصوص صورة العلم يقتصرون في مفاده على خصوص تلك الصورة ، ولا تكون خصوصية العلم ملغاة عندهم أصلا ، هذا كلّه بحسب مقام الثبوت .
وأمّا بحسب مقام الإثبات فقد عرفت أنّ الدليل الوحيد هو صدر رواية زرارة المتقدّمة ، وعرفت أيضاً أنّ غاية مدلولها على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا سابقاً ، من عدم كونه في مقام بيان هذا الحكم ، بل هو ناظر إلى حكم آخر ، هو وجوب الابتداء باُولى الفوائت في مقام الفوت ، ولا دلالة لها على اعتبار الترتيب بين غيرها من الثانية والثالثة وهكذا .
ومن المعلوم أنّ المخاطب بهذا الأمر هو العالم بالترتيب القادر على الابتداء باُولى الفوائت عن علم ، فاستفادة اعتبار الترتيب بالنسبة إلى غير الاُولى تحتاج إلى دعوى إلغاء الخصوصية ، كما أنّ استفادة اطلاق الاعتبار بالنسبة إلى الجاهل أيضاً يحتاج إلى تلك الدعوى . ونحن وإن وافقنا على إلغاء الخصوصية من الجهة الاُولى ، نظراً إلى أنه لا خصوصية للفائتة الاُولى بنظر العرف ، لكن لا نسلّم الدعوى الثانية ، خصوصاً بعد كون مراعاة الترتيب عند الجهل مستلزمة غالباً لتكرار الفائتة كثيراً ، وخصوصاً بعدما عرفت من أنّ إلغاء خصوصية العلم بعد
(الصفحة 173)
عدم كون الحاضرة مشروطة بالإتيان باللاحقة وتأخّرها عنها ، ممّا لا يساعده العرف أصلا .
فالانصاف أنّ الاتكاء في مقام الإفتاء على مثل هذه الرواية ، مع ما عرفت من قصورها عن الدلالة ، على أصل اعتبار الترتيب بين الفوائت ـ فضلا عن إطلاقه وشموله لحال الجهل أيضاً ، ومع استلزام العمل بمقتضى هذه الفتوى المشقّة الكثيرة ـ ممّا لا ينبغي أن يقع من الفقيه ، بل الإفتاء بذلك خلاف الإحتياط ، من جهة أنّ إلقاء المكلّف في المشقّة ـ من دون دليل ظاهر وحجّة واضحة ـ ممّا يسدّ باب الاحتجاج للمفتى عليه ، ويبقى له حق السؤال عن وجه هذا الالقاء مع كون الحال ما ذكر .
وكما أنّ الإحتياط في مقام العمل مستحسن بلا ريب ، فكذلك الإحتياط في مقام الافتاء ، ألا ترى أنّ المقدّس الأردبيلي(قدس سره) مع شدّة تورعه وكثرة زهده حتّى أنّه بلغ إلى مرتبة لم يبلغ إليها إلاّ القليل ـ ولذلك اشتهر بالمقدس ـ لم يكن يفتي في الفقه إلاّ بما دلّ عليه دليل ظاهر ، وليس ذلك إلاّ لأجل أنه يرى أنّ مقتضى الإحتياط في مقام الافتاء مع عدم وجود مثل ذلك الدليل التجنّب عنه ، وعدم إلقاء المكلّف في الضيق والمشقّة .
هذا كلّه فيما لو كان جاهلا بالترتيب من أوّل الأمر ، وأمّا لو كان عالماً به ابتداءً ثمّ عرض له النسيان ، فمقتضى استصحاب وجوب الترتيب الثابت حال العلم لرواية زرارة المتقدّمة ـ بناءً على دلالتها على اعتباره كما هو المفروض ـ لزوم تكرار الفوائت حتّى يحصل له العلم بحصول الترتيب المعتبر شرعاً . هذا كلّه فيما يتعلّق بقضاء المكلّف عن نفسه .
وأمّا تولّي القضاء عن الميّت ، سواء كان من وليّه الذي هو أكبر الذكور من أولاده ، أو من متبرّع ، أو من مستأجر ، ففي لزوم مراعاة الترتيب فيه أيضاً إشكال ، ولهذه المسألة صور كثيرة; لأنّه قد يكون الترتيب معلوماً لكلّ من الميّت
(الصفحة 174)
ووصيّه والمتولّي للقضاء ـ وليّاً كان أو متبرّعاً أو مستأجراً ـ وقد يكون مجهولا لجميعهم ، وقد يكون معلوماً لبعض ومجهولا لآخر بصوره المتعدّدة ، ولابدّ من بيان أحكام جميع صور المسألة .
أمّا الصورة الاُولى التي هي القدر المتيقّن من محلّ النزاع في هذه الجهة ، فالمحكيّ في الجواهر عن كشف الغطاء لأستاذه عدم اعتباره ، إستناداً إلى الأصل بعد قصر ما دلّ على اعتبار الترتيب على المتيقّن وهو القاضي عن نفسه ، وإلى إطلاق ما دلّ على القضاء عن الميّت(1) .
هذا ، ولكنّه ناقش فيه في الجواهر بأنّ النائب لا يكون إلاّ مؤدّياً تكليف غيره الذي من كيفيته الترتيب ، كالقصر والإتمام والجهر والاخفات ، فلو استأجر أجيرين حينئذ كلّ واحد عن سنة لم يجز عنه لو أوقعاها دفعة ، فضلا عن عكس الترتيب بل يصحّ منهما سنة خاصّة(2) .
وذكر في المصباح: إنّه قد يقال: بأنّ النائب إنّما يجب عليه أن يأتي بالفعل على وجه يقع تداركاً للفريضة الفائتة ، بأن يقع موافقاً لطلبها الابتدائي المتعلّق بها من حيث هو ، لا الأمر الثانوي المتعلّق بقضائها بعد فواتها ، وقال في توضيح هذا ما ملخّصه:
إنّ الشارع أوجب على وليّ الميّت أن يقضي عنه ما فاته من صلاة أو صيام ، كما أنّه أوجب ذلك على نفسه على تقدير بقائه حيّاً وتمكّنه من ذلك ، فالقضاء سواء كان على الوليّ أو على نفسه إنّما يجب بأمر جديد ، ولكن متعلّق هذا الأمر هو الفعل الذي تعلّق به الأمر الأول في خارج وقته .
- (1) كشف الغطاء: 270 .
- (2) جواهر الكلام 13: 30 .