(الصفحة 207)
وبعبارة اُخرى: إنّ الجماعة وإن كانت من العناوين القصدية المتقومة بالقصد كعنواني التعظيم والاستهزاء وغيرهما من العناوين القصدية ، إلاّ أنه حيث كانت من الاُمور التدريجية غير القارّة التي يتحقّق كل جزء منها في زمان ، فلابدّ في تحقّقها من بقاء القصد إلى آخر الصلاة ، كما هو الشأن في جميع العناوين القصدية غير القارّة التي منها أصل عنوان الصلاة ، فإنّه عنوان تدريجيّ لابدّ من بقاء قصده إلى آخر الأجزاء والإتيان بكلّ جزء بما أنه جزء لها .
ففي المقام إذا شرع في الصلاة بنية الاقتداء إلى آخر صلاة الإمام ، فاتّصافها بكونها صلاة في جماعة يتوقّف على إدامة هذه النية إلى آخرها ، وإذا عدل عنها في الأثناء يكشف ذلك عن عدم اتّصاف ما وقع قبل هذه النية من الأجزاء بعنوان الجماعة .
نعم ، لو ثبت أنّ الجماعة وصف لكلّ جزء من أجزاء الصلاة على سبيل الاستقلال ، فلا مانع حينئذ من العدول في الأثناء ، ولكن لا ينحصر الجواز بما إذا حدثت نية العدول في الأثناء ، بل يعمّ ما إذا كان من أوّل الأمر قاصداً لذلك ، فيرجع الكلام بالأخرة إلى ملاحظة هذا المعنى ، وهو أنّ الاقتداء الذي هو من العناوين القصدية ويوجب الفضيلة للصلاة بخمس وعشرين درجة ، أو بأربع وعشرين(1) ، هل تختص مشروعيته بما إذا استدام إلى آخر صلاة الإمام ، أو يعمّ الاقتداء المبعّض أيضاً؟ .
وهذا هو الذي ينبغي أن يقع مبنى المسألة ويبحث فيه ، وليست المسألة مبتنية على أنّ الجماعة والفرادى هل هما حقيقتان أو حقيقة واحدة(2)؟
- (1) راجع 3 : 191 .
- (2) كما حكاه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ «أدام الله ظلاله» عن شيخه المحقّق الخراساني(قدس سره)
، وذكر أنّه كان هو المعروف بين الأساتذة والأساطين المعاصرين له ، «المقرّر» .
(الصفحة 208)
وذلك ـ أي وجه عدم الابتناء ـ أنه إن كان المراد بتغايرهما من حيث الحقيقة هو عدم إمكان اجتماعهما في صلاة واحدة ، كعنواني صلاتي الظهر والعصر المتغايرين بهذا المعنى ، حيث إنّه لا يمكن اجتماعهما في صلاة واحدة ، لأنّه لا يتصوّر صلاة واحدة مركّبة من العنوانين ، بأن يكون بعض أجزائها ظهراً والبعض الآخر عصراً .
والعدول من العصر إلى الظهر في الأثناء وإن كان جائزاً في موارده ، إلاّ أنه لا يوجب اجتماع العنوانين على صلاة واحدة ، ضرورة أنّ العدول يؤثِّر في صيرورة الصلاة من أوّلها معنونة بعنوان المعدول إليها ، ولذا ذكرنا في بحث العدول أنه يكون على خلاف القاعدة ، ولا يصار إليه إلاّ في خصوص الموارد المنصوصة .
وبالجملة:
فإن كان المراد بتغاير الجماعة والفرادى عدم إمكان اجتماعهما في صلاة واحدة ، فمن الواضح أنه لا مجال لتوهّم ذلك ، ضرورة أنّ الموارد التي يكون بعض الصلاة جماعة والبعض الآخر فرداً كثيرة جدّاً ، كما في مورد اقتداء الحاضر بالمسافر ، والاقتداء في الصلاة الرباعية بالثلاثية أو الثنائية ونظائرهما .
وإن كان المراد بتغايرهما توقّف تحصّل كلّ واحد من عنوانيهما على تعلّق القصد به ، بحيث كان كلّ واحد منهما من العناوين القصدية ، فذلك أيضاً باطل لما عرفت من أنّ عنوان الجماعة وإن كان من العناوين القصدية المتقوّمة بالقصد ، إلاّ أنّ الصلاة فرداً لا تحتاج إلى نية الانفراد ، بل يكفي في تحقّقه مجرّد عدم قصد الاقتداء ، لا بنحو الموجبة المعدولة بل على نحو السالبة المحصّلة ، كما أنّ صلاة الإمام في الجماعة أيضاً لا تفتقر إلى قصد الإمامة على ما عرفت(1) ، خلافاً لبعض العامّة ، فهذا الاحتمال أيضاً ممّا لا وجه له .
(الصفحة 209)
فالواجب أن يقال بافتقار خصوص الجماعة ، إلى القصد وهو يجتمع مع القول بجواز العدول ومع القول بالعدم ، لما عرفت من تبعية حكم القصد لحكم متعلقه ، فإن قلنا باختصاص المشروعية الثابتة بالاقتداء في مجموع الصلاة ـ أي من حين الشروع إلى آخر صلاة الإمام ونفادها ـ فلا مجال لدعوى الجواز .
وإن قلنا بعدم الاختصاص والشمول للاقتداء المبعّض أيضاً ، بل ليس الاقتداء إلاّ بالنسبة إلى كلّ بعض على سبيل الاستقلال ، غاية الأمر أنّ الاقتداء في الكلّ مرجعه إلى تحقق الاقتداء في كل جزء من أجزائها ، فاللازم القول بجواز العدول ، فمبنى المسألة هو هذا المعنى وليس إلاّ ، كما لا يخفى .
وكيف كان فقد استدلّ على جواز العدول بوجوه:
منها:
الآية الشريفة(1) الواردة في صلاة ذات الرقاع ، بضميمة الروايات الدالّة على كيفيتها ، وهذه الروايات ـ غير ما ورد منها في كيفية صلاة الخوف في خصوص صلاة المغرب ـ مختلفة من جهتين :
1 ـ
تكبير الإمام في الركعة الثانية بعد مجيء الطائفة الثانية ، حيث إنّ مقتضى رواية عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن الصادق(عليه السلام)الحاكية لصلاة النبيّ(صلى الله عليه وآله)بأصحابه في غزوة ذات الرقاع أنّه(صلى الله عليه وآله)كبّربعدمجيءالطائفة الثانية،وقيامهم خلف رسول الله(صلى الله عليه وآله)(2).
والظاهر أنّ المراد بهذا التكبير هي تكبيرة الافتتاح هذا ، وباقي الروايات خالية عن اعتبار هذا التكبير والتعرّض(3) له ، ولعلّ ذكره في رواية عبدالرحمن كان مستنداً إلى سهو الراوي ، حيث كان اتّحاد السياق يلائم مع ثبوته كما لا يخفى .
- (1) النساء : 102 .
- (2) الفقيه 1: 293 ح 1337; الكافي 3: 456 ح2; التهذيب 3: 172 ح380; الوسائل 8: 435 . أبواب صلاة الخوف والمطاردة ب2 ح1 .
- (3) الوسائل 8 : 436 ـ 438 ب2 ح2 ـ 8 .
(الصفحة 210)
2 ـ
جلوس الإمام في التشهّد حتّى تلحق الطائفة الثانية به ويسلّم عليهم ، فمقتضى رواية عبدالرحمن المتقدّمة وبعض الروايات الاُخر الواردة في الباب أنّه يسلّم الإمام لنفسه بعد التشهّد ثمّ تقوم الطائفة الثانية وتقضون لأنفسهم ركعة(1) .
ومقتضى بعض الروايات الاُخر، أنه يمكث في التشهّد ويجلس حتّى تلحق الطائفة الثانية الذين قاموا بعد سجود الإمام للإتيان بالركعة الثانية به ، ويسلّم عليهم، فتسليم الطائفة الثانية حينئذ يقع عقيب تسليم الإمام(2) .
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ عمل الطائفة الثانية وكيفية صلاتهم لا يدلّ على ما راموه من جواز العدول اختياراً ، لأنّه إن كانت الكيفية مطابقة لما تدلّ من الروايات على أنّ الإمام يجلس في التشهّد حتّى تلحقوا به ، فواضح أنّ صلاتهم حينئذ تقع جماعة من أوّلها إلى آخرها .
وإن كانت مطابقة للروايات الاُخر فلا دلالة له أيضاً على جواز العدول ، لأنّ مفروض مسألة العدول ما إذا كان الإمام مشتغلا بالصلاة بحيث لم تنفد صلاته ، ضرورة أنه مع خروجه لا يبقى مجال للشكّ في وقوع ما بقي من صلاة المأموم متّصفاً بغير الجماعة ، كالمأموم المسبوق بركعة أو أزيد ، وصلاة الطائفة الثانية بناءً على ذلك تصير من هذا القبيل .
وأمّا الطائفة الاُولى الذين يصلّون الركعة الثانية لأنفسهم، فيمكن أن يقال بعدم خروج صلاتهم أيضاً عن عنوان كونها في جماعة ، غاية الأمر أنّه رفع عنهم وجوب المتابعة في الأفعال والأقوال ، وهي لا يكون لها مدخلية في قوام الجماعة وحقيقتها ، وعلى تقدير التنزّل وتسليم كون الركعة الثانية من صلاتهم لا تقع
- (1 و 2) الوسائل 8 : 436 ـ 438 ب2 ح8 و5 .
(الصفحة 211)
جماعة ، مع عدم نفاد صلاة الإمام بعد ـ كما هو ظاهر بعض الروايات الواردة في صلاة الخوف ـ نقول: إنّ تجويز ذلك في مورد الضرورة والعذر لا يستلزم التجويز مطلقاً .
ومنها:
ما ورد في بعض الروايات من جواز التسليم قبل الإمام فيما لو أطال التشهّد(1) وقد قدّمنا جوابه فيما سبق ، ومحصّله: إنّ مجرّد جواز التسليم قبل الإمام لا يتوقّف على صيرورة الصلاة فرادى ، بل صلاته باقية على الجماعة ما دام لم يفرغ منها ، غاية الأمر أنه بالفراغ لا يبقى موضوع لوصف الجماعة ، ومرجع ذلك إلى أنّ ما يكون واجباً على المأموم عند صيرورة صلاته جماعة ـ وهو وجوب متابعة الإمام في الأفعال ـ يرتفع عند عروض عذر للمأموم ، وقد عرفت أنّ متابعة الإمام لا يكون لها دخل في قوام الجماعة أصلا .
ومنها:
ما رواه العامّة بطرقهم عن جابر أنّه قال: «كان معاذ يصلّي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)العشاء ثمّ يرجع إلى قومه فيؤمّهم ، فأخّر النبيّ(صلى الله عليه وآله) صلاة العشاء فصلّى معه، ثمّ رجع إلى قومه فقرأ سورة البقرة ، فتأخّر رجل فصلّى معه وحده ، فقيل له: نافقت يا فلان ، فقال: ما نافقت ولكن لآتينّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) فأخبره ، فأتى النبيّ(صلى الله عليه وآله)فذكر ذلك له ، فقال له: افتان أنت يا معاذ مرّتين ولم ينكره النبيّ(صلى الله عليه وآله)»(2) .
وقد استدلّ بهذه الرواية الشافعي في كتاب الأمّ، ورواها بطرق أربعة ينتهي كلّها إلى جابر(3) ، وكذا استدلّ بها الشهيد(قدس سره)(4) هذا ، والظاهر أنّه لا دلالة للرواية على مرام المستدلّ بوجه ، لأنّها متعرّضة لحال معاذ من جهة كونه من الأنصار ،
- (1) التهذيب 2 : 317 ح1299 . الوسائل 6 : 416 . أبواب التسليم ب1 ح6 .
- (2) سنن البيهقي 2: 392 ـ 393 .
- (3) الامّ 1: 172 ـ 173 .
- (4) الذكرى 4 : 426 .