(الصفحة 225)
أمّا اعتبار العدالة في باب صلاة الجماعة ، فهو من متفردات علمائنا الإمامية رضوان الله عليهم أجمعين ، نعم حكي عن السيّد المرتضى(رحمه الله) إنّه حكى عن أبي عبدالله البصري أنّه وافق الإمامية وقال باشتراط العدالة(1) ، وحكي عن الشافعي أنّه كره الصلاة خلف الفاسق(2) .
وكيف كان، فأصل اعتبارها في إمام الجماعة ممّا لا شكّ فيه عندنا ، وإنّما المهمّ بيان معناها ومفهومها بحسب الاصطلاح ، فنقول:
العدالة لغة بمعنى الاستقامة وعدم الانحراف(3) ، ويقابلها الفسق ، فإنّه بمعنى الميل والانحراف بقرينة المقابلة ، وأمّا اصطلاحاً فقد اختلفوا فيه على أقوال ثلاث:
الأول:
أنّ المراد بها ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، يظهر ذلك من ابن الجنيد والشيخ في الخلاف ، وكذا في المبسوط في باب الشهادات ، حيث قال في الثاني: العدالة في الدين أن يكون مسلماً ولا يعرف منه شيء من أسباب الفسق ، وحكي هذا القول عن غيره من بعض القدماء أيضاً(4) .
الثاني:
أنّ المراد بها معنى أخصّ من المعنى الأول وهو حسن الظاهر ، ومرجعه إلى كونه في الظاهر يعدّ رجلا صالحاً(5) .
الثالث:
أنّ المراد بها ملكة نفسانية راسخة في النفس باعثة على ملازمة التقوى بحيث يتعسّر معها ارتكاب الكبيرة ، وكذا الإصرار على الصغيرة أو عليها
- (1) نقله عنه في الخلاف 1: 560 مسألة 310; ولكن لم نجده في الإنتصار والناصريات والجمل .
- (2) الأمّ 1: 166; المجموع 4 : 253; تذكرة الفقهاء 4 : 280 مسألة 564 .
- (3) مقاييس اللغة 4 : 246 .
- (4) الخلاف 6: 218; ونقله عن ابن الجنيد في مختلف الشعية 3: 88 ، المبسوط 8: 217; السرائر 2: 117; الإشراف (مصنّفات الشيخ المفيد) 9: 25 .
- (5) المقنعة : 725 ; النهاية : 105 ; المهذّب 2 : 556; الوسيلة: 230; الكافي في الفقه: 434; الذكرى 4: 389 .
(الصفحة 226)
وعلى المروءة أيضاً ، وهذا المعنى هو المشهور بين المتأخّرين(1) .
ولا يخفى أنّ المعنيين الأوّلين ليسا بمعنى العدالة ، لأنّها من الأوصاف الواقعية والفضائل النفس الأمرية ، ومجرّد ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر ، لا يوجب أن يكون الشخص متّصفاً بهذه الصفة واقعاً ، فإنّه يمكن أن يكون في الواقع فاسقاً .
غاية الأمر إنّه لم يظهر فسقه بل كان ظاهره حسناً ، فلابدّ أن يقال: بأنّ مراد من فسّر العدالة بأحد هذين المعنيين ليس هو تفسير العدالة وبيان معناها ، بل مراده أنّ ما يترتّب عليه الأثر من الأحكام المترتّبة على العدالة هو هذا المعنى .
والدليل عليه أنّ الشيخ في الخلاف بعدما تمسّك لمذهبه في قبال الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما ـ وهو عدم وجوب البحث عن الشاهد الذي عرف إسلامه ولم يعرف جرحه بإجماع الفرقة وأخبارهم ـ قال: وأيضاً الأصل في الإسلام العدالة ، والفسق طار عليه يحتاج إلى دليل ، وأيضاً نحن نعلم أنّه ما كان البحث في أيّام النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ولا أيّام الصحابة ، ولا أيّام التابعين ، وإنّما هو شيء أحدثه شريك بن عبدالله القاضي . . .(2) .
فإنّ تمسكه بالأصل وكذا بعدم ثبوت البحث في تلك الأيّام ظاهر في أنه ليس مراده من ذلك تفسير حقيقة العدالة وبيان معناها ، بل المراد بيان ما يكفي في حكم الحاكم بشهادة الشاهدين ، وأنّه هو معروفية إسلامهما وعدم معروفية جرحهما كما لا يخفى .
وأمّا المعنى الثالث فهو وإن لم تكن تجري فيه هذه المناقشة ، إلاّ أنّ اعتبار
- (1) مختلف الشيعة 8 : 484 ; إرشاد الأذهان 2: 156 ; الدروس 2: 125 ; الروضة البهية 3: 128; مدارك الأحكام 4: 66; رياض المسائل 4 : 329; العروة الوثقى 1 : 630 مسألة 12 .
- (2) الخلاف 6: 217 ـ 218 مسألة 10 .
(الصفحة 227)
العدالة بهذا المعنى مشكل جدّاً ، ضرورة أنّ تحصّل الملكة الكذائية الباعثة على ملازمة التقوى أو مع المروّة في غاية الندرة ، لأنّ هذه الملكة حينئذ تصير من المراتب التالية للعصمة .
غاية الأمر أنّ العصمة عبارة عن الملكة التي تحصل للنفوس الشريفة ويمتنع معها صدور المعصية ، وأمّا ملكة العدالة فلا يمتنع معها صدور المعصية ، بل يمكن أن تصدر، ولكن يتعسّر ويصعب صدورها .
وبالجملة:
فاعتبار العدالة بهذا المعنى ممّا لا سبيل إليه بعد ندرة تحققها وكثرة الأحكام التي يترتّب عليها .
ثمّ إنّ استعمال كلمة العدالة لا ينحصر بالفقهاء ، بل يستعملونها علماء الأخلاق أيضاً ، حيث قسّموا ذلك العلم إلى قوّتين: «علميّة وعمليّة» ، والعملية لها قوّتان: شهوة وغضب ، وكلّ منهما إمّا أن تكون بحدّ الإفراط ، أو بحدّ التفريط ، أو على التوسّط ، فالمتوسّط من كلّ منهما هو العدالة ، وكذا القوّة العلميّة ، وهذا الذي ذكروه في مورد العدالة قد ينطبق على موردها بحسب اصطلاح الفقهاء ، وقد يتخلّف عنه كما هو غير خفيّ .
ثمّ إنّ الكتاب العزيز قد استعملت فيه هذه اللفظة ومقابلها في موارد:
منها:
قوله تعالى:
{وأشهدوا ذوي عدل منكم}(1) .
ومنها:
قوله تعالى:
{إن جاءَكم فاسق بنبأ فتبيّنوا}(2) .
ومنها:
قوله تعالى:
{وليكتب بينكم كاتب بالعدل}(3) .
- (1) الطلاق: 2 .
- (2) الحجرات: 6 .
- (3) البقرة: 282 .
(الصفحة 228)
ومنها:
قوله تعالى:
{حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم}(1) وقد اُشير إليه في قوله تعالى:
{ممّن ترضون من الشهداء}(2) .
وكيف كان، فاعتبار العدالة بالمعنى الثالث في غاية الإشكال ، وعباراتهم قاصرة عن إفادة كونها نفس الملكة الكذائية ، فإنّهم متّفقون ظاهراً على أنّ العادل لو صدرت منه معصية لم يترتّب عليه حينئذ الأحكام المترتّبة على عدالته ، فلا يجوز الاقتداء به حينئذ ، ولا تقبل شهادته أيضاً .
نعم، لو تاب ورجع عنها يرجع إلى ما كان عليه قبل صدور تلك المعصية من جواز ترتيب أحكام العدالة عليه ، مع أنّه لو كانت حقيقة العدالة نفس تلك الحالة والهيئة الراسخة والملكة النفسانية ، فإمّا أن لا تزول بمجرّد صدور معصية واحدة فيجوز الاقتداء به قبل التوبة عنها أيضاً ، وإمّا أن لا تعود بمجرّد التوبة فلا يجوز الاقتداء به بعدها أيضاً ، اللّهم إلاّ أن يكون مرادهم أنّ العدالة هي الملكة الكذائية مع عدم صدور المعصية عنه خارجاً ، فتأمّل .
وكيف كان فلابدّ في هذا المقام من ملاحظة الأخبار الواردة فيه ، وهي كثيرة:
حول صحيحة عبدالله بن أبي يعفور
صحيحة عبدالله بن أبي يعفور التي رواها الصدوق في الفقيه ، والشيخ في التهذيب وهي العمدة في هذا الباب .
أمّا الصدوق(رحمه الله) فقد روى في الفقيه باسناده عن عبدالله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : بِمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم
- (1) المائدة : 106 .
- (2) البقرة : 282 .
(الصفحة 229)
وعليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف ، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك ، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه ، حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ ، وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة ، فإذا كان كذلك لازماً لمصلاّه عند حضور الصلوات الخمس ، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا: ما رأينا منه إلاّ خيراً ، مواظباً على الصلوات ، متعاهداً لأوقاتها في مصلاّه ، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين .
وذلك أنّ الصلاة ستر وكفّارة للذنوب ، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلاّه ويتعاهد جماعة المسلمين ، وإنّما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيّع ، ولولا ذلك لم يمكن أحداً أن يشهد على آخر بصلاح ، لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين ، فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين ، وقد كان فيهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك ، وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزّوجلّ ومن رسوله(صلى الله عليه وآله) فيه الحرق في جوف بيته بالنار ، وقد كان يقول: لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلاّ من علّة» .
وأمّا الشيخ فقد رواها بإسناده عن أحمد بن محمد بن يحيى العطّار ، عن محمد ابن موسى ، عن الحسن بن عليّ ، عن أبيه ، عن عليّ بن عقبة ، عن موسى بن أكيل النميري ، عن ابن أبي يعفور ، مثل ما روى الصدوق(رحمه الله) ، إلاّ أنّه أسقط ـ على ما