(الصفحة 244)
الصلاة فيقدم بعضهم فيصلّي بهم جماعة ، فقال: «إن كان الذي يؤمّهم ليس بينه وبين الله طلبة فليفعل»(1) . ولا يخفى أنّ توصيفه بأنّه صاحب موسى والرضا(عليهما السلام) لا يلائم مع ما في رجال النجاشي(2) في ترجمة الرجل الذي اسمه أحمد بن محمد بن سيّار من أنّه كان من كتّاب آل طاهر في زمن أبي محمد(عليه السلام) .
ومنها:
ما رواه الشهيد في الذكرى عن الصادق(عليه السلام) ممّا يدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال: «لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلاّ من علّة ، ولا غيبة إلاّ لمن صلّى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن جماعة المسلمين سقطت عدالته»(3) . وغير ذلك من الأخبار.
وقد انقدح من ذلك أنّه ليس في شيء من الروايات الواردة في باب الجماعة ما يدلّ على اعتبار العدالة بعنوانها في الإمام ، بل الوارد إنّما هو النهي عن الصلاة خلف الفاسق ، أو الغالي ، أو من لا تثق بدينه ، أو المقترف للذنوب ، أو شبه ذلك من العناوين .
نعم، يستفاد من اعتبارها في الشاهد بملاحظة عدم الفرق بينه وبين الإمام من هذه الجهة اعتبارها في الإمام أيضاً ، مع أنّ النهي عن الصلاة خلف الفاسق يكفي في ذلك ، لوضوح التقابل بين الفسق والعدالة بين المتشرّعة تقابل التضادّ أو غيره ، فالنهي عن الصلاة خلف الفاسق يرجع إلى مانعيّة الفسق واعتبار العدالة .
هذا، والظاهر أنّ التقابل بينهما إنّما هو تقابل العدم والملكة ، لأنّ العدالة هو عدم العصيان وعدم الانحراف عن طريق الاعتدال ، والفسق هو الميل والاعوجاج عن جادّة الاستواء والاستقامة .
- (1) السرائر 3 : 570; الوسائل 8: 316 . أبواب صلاة الجماعة ب11 ح12 .
- (2) رجال النجاشي: 80 .
- (3) الذكرى 4 : 372 ; الوسائل 8 : 317 . أبواب صلاة الجماعة ب11 ح13 .
(الصفحة 245)
الذنوب الكبيرة والصغيرة
غير خفيّ على الناظر في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(1) أنّها مشعرة بأنّ المعاصي الشرعيّة قسمان: كبيرة وصغيرة ، كما أنّها تشعر بأنّ ضابط الكبيرة هو ما أوعد الله عليها النار ، بناءً على كون الوصف توضيحيّاً لا احترازيّاً ، كما هو الظاهر .
وهذا الأمر ـ أي تقسيم المعاصي إلى قسمين ، وإنّ منها كبيرة ومنها صغيرة ـ ممّا لا يظهر من كلمات قدماء أصحابنا الإمامية الذين صنّفوا في الفقه، كالمفيد والمرتضى وأبي الصلاح وغيرهم ، نعم ذكر ذلك الشيخ في كتاب المبسوط الذي عرفت غير مرّة أنّه مصنّف على غير ما هو المتداول بين الأصحاب في ذلك الزمان في مقام التصنيف في الفقه ، حيث قال ـ بعد تفسير العدالة في الشريعة بأنّها عبارة عن العدالة في الدين والعدالة في المروءة والعدالة في الأحكام ، وبعد تفسير كلّ
(الصفحة 246)
واحد من هذه الأمور الثلاثة ـ : وإن ارتكب شيئاً من الكبائر (وعدّ جملة منها) ، سقط شهادته فأمّا إن كان مجتنباً للكبائر مواقعاً للصغائر ، فإنّه يعتبر الأغلب من حاله ، فإن كان الأغلب من حاله مجانبته للمعاصي وكان يواقع ذلك نادراً قبلت شهادته ، وإن كان الأغلب مواقعته للمعاصي واجتنابه لذلك نادراً لم تقبل شهادته، قال: وإنّما اعتبرنا الأغلب في الصغائر، لأنّا لو قلنا إنّه لا تقبل شهادة من واقع اليسير من الصغائر أدّى ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ، لأنّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي(1) ، انتهى .
ويشعر بهذا الاقتسام قوله تعالى:
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم . . .}(2) ، وقوله تعالى أيضاً:
{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم . . .}(3) ، حيث إنّهما مشعران باتّصاف بعض المنهيّات والآثام بوصف الكبر وبعض آخر بخلافه .
هذا ، ولكن جماعة من المتأخّرين أنكروا ذلك، وذهبوا إلى أنّ المعاصي كلّها كبيرة ، وقد أورد ابن إدريس على ما ذكره الشيخ في المبسوط حيث قال: وهذا القول لم يذهب إليه(رحمه الله) إلاّ في هذا الكتاب ، أعني المبسوط ، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ، لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلاّ بالإضافة إلى غيرها ، وما خرّجه واستدلّ به من أنّه يؤدّي ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ، لأنّه لا أحد ينفكّ من مواقعة بعض المعاصي فغير واضح .
لأنّه قادر على التوبة من ذلك الصغيرة ، فإذا تاب قبلت شهادته ، وليست التوبة ممّا يتعذّر على إنسان دون إنسان ، ولا شكّ أنّ هذا القول تخريج لبعض
- (1) المبسوط 8 : 217 .
- (2) النساء: 31 .
- (3) النجم: 32 .
(الصفحة 247)
المخالفين ، فاختاره شيخنا هاهنا ونصره وأورده على جهته ولم يقل عليه شيئاً ، لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب(1) ، انتهى .
هذا، ويمكن المناقشة في دلالة الصحيحة المتقدّمة(2) على ذلك ، لأنّه يمكن أن يكون المراد من الكبائر التي جعل الاجتناب عنها دخيلا في تحقق العدالة هو الكبائر عن المنهيّات التي هي أعمّ ممّا تعلّق به النهي التحريمي ، بحيث تكون الكبائر مساوقة لخصوص ما كان متعلقاً للنهي التحريمي .
ودعوى إنّ التقييد بذلك للإحتراز عن عدم كون ارتكاب المكروهات مضرّاً بالعدالة لا وجه له بعد عدم توهّم الخلاف أصلا .
مدفوعة بأنّك عرفت أنّه كان من جملة الأقوال في باب العدالة في عصر الإمام الصادق(عليه السلام) هو القول بأنّها عبارة عن الاجتناب عن المحرّمات والمكروهات جميعاً ، والالتزام بالطاعات الواجبة والمندوبة كذلك ، ومع وجود هذا القول لابدّ من التقييد بالكبائر لئلاّ يتوهّم الخلاف .
ومن هنا يظهر أنّ قوله تعالى:
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه . . .} لا دلالة له على كون المعاصي على قسمين ، بل غاية مفاده أنّ الاُمور التي تعلّق النهي بها على قسمين ، ولعلّه كانت الكبائر مساوقة للمنهيّ عنها بالنهي التحريمي ، وإطلاق السيّئة على المكروه لا مانع عنه أصلا .
فالآية تدلّ حينئذ على أنّ اجتناب المحرّمات يوجب ستر المكروهات أيضاً . هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ مثل هذا الاحتمال لا يقاوم الظهور في كون المحرّمات على قسمين، صغيرة وكبيرة كما لا يخفى .
نعم، تفسير الكبائر بما أوعد الله عليها النار مجمل جدّاً ، لأنّه لا يعلم أنّ المراد
- (1) السرائر2 : 118 .
- (2) راجع 3 : 228 .
(الصفحة 248)
بها هو خصوص ما أوعد الله عليها النار في كتابه العزيز ، أو الأعمّ منه وممّا أوعد عليها النار بلسان نبيّه(صلى الله عليه وآله) أو الأئمّة من أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين(1) .
وبالجملة:
فهذه المسألة ـ أي أصل كون المعاصي على قسمين ـ في غاية الإشكال ، خصوصاً مع توصيف الإمام(عليه السلام) في بعض الروايات الواردة في هذا الباب «كل ذنب بأنّه عظيم»(2) ، وخصوصاً مع أنّ الشيخ في التبيان ـ على ما حكي ـ صرّح بعدم كون المعصية على نوعين ، وأنّ اطلاق الصغر والكبر إضافيّ إلى ما فوق وإلى ما تحت ، لا في حدّ ذاته ، كما أنّه حكي عن كتاب عدّته أيضاً(3) ، وحكي عن المفيد والقاضي والتقي والطبرسي، بل يظهر من المحكيّ عن مجمع البيان والعدّة والسرائر أنّ ذلك إتّفاقيّ ، حيث نسب فيها إلى الجميع(4) .
وبالجملة:
فظهور الآيتين والروايات الكثيرة الآتية في أنّ المعاصي على نوعين ، واشتهار ذلك بين المتأخّرين ، حتّى أنّه نسب إلى المشهور تارة، وإلى أكثر العلماء اُخرى، وإلى العلماء ثالثة ، وإلى المشهور المعروف رابعة(5) ، يدلّ على اختلاف المعاصي واتّصاف بعضها بالكبر في حدّ ذاته ، وبعضها بالصغر كذلك ، لكن إنكار جماعة كثيرة التي عرفت جملة منهم بضميمة الاختلاف الواقع في تعداد الكبائر في الروايات كما سيجيء ، ربما يؤيّد كون إطلاق الصغر والكبر إنّما هو بالإضافة إلى ما فوق وإلى ما تحت .
والتحقيق في هذا المقام أن يقال إنّه لا مجال لإنكار الصغر والكبر بقول مطلق
- (1) الوسائل 27 : 391 كتاب الشهادات ب41 ح1 ; وج15 : 318 . أبواب جهاد النفس ب46 ح1 .
- (2) الكافي3: 450 ح31; التهذيب 2: 130 ح502; الوسائل 15: 322 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح5.
- (3) تفسير التبيان 3 : 184 ; عدّة الاُصول 1 : 139 .
- (4) أوائل المقالات : 83 ; المهذّب 2 : 556 ; الكافي في الفقه : 435 ; مجمع البيان 3 : 70; عدّة الاُصول 1: 139; السرائر 2 : 118 .
- (5) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 318 ـ 320 .