(الصفحة 247)
المخالفين ، فاختاره شيخنا هاهنا ونصره وأورده على جهته ولم يقل عليه شيئاً ، لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب(1) ، انتهى .
هذا، ويمكن المناقشة في دلالة الصحيحة المتقدّمة(2) على ذلك ، لأنّه يمكن أن يكون المراد من الكبائر التي جعل الاجتناب عنها دخيلا في تحقق العدالة هو الكبائر عن المنهيّات التي هي أعمّ ممّا تعلّق به النهي التحريمي ، بحيث تكون الكبائر مساوقة لخصوص ما كان متعلقاً للنهي التحريمي .
ودعوى إنّ التقييد بذلك للإحتراز عن عدم كون ارتكاب المكروهات مضرّاً بالعدالة لا وجه له بعد عدم توهّم الخلاف أصلا .
مدفوعة بأنّك عرفت أنّه كان من جملة الأقوال في باب العدالة في عصر الإمام الصادق(عليه السلام) هو القول بأنّها عبارة عن الاجتناب عن المحرّمات والمكروهات جميعاً ، والالتزام بالطاعات الواجبة والمندوبة كذلك ، ومع وجود هذا القول لابدّ من التقييد بالكبائر لئلاّ يتوهّم الخلاف .
ومن هنا يظهر أنّ قوله تعالى:
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه . . .} لا دلالة له على كون المعاصي على قسمين ، بل غاية مفاده أنّ الاُمور التي تعلّق النهي بها على قسمين ، ولعلّه كانت الكبائر مساوقة للمنهيّ عنها بالنهي التحريمي ، وإطلاق السيّئة على المكروه لا مانع عنه أصلا .
فالآية تدلّ حينئذ على أنّ اجتناب المحرّمات يوجب ستر المكروهات أيضاً . هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ مثل هذا الاحتمال لا يقاوم الظهور في كون المحرّمات على قسمين، صغيرة وكبيرة كما لا يخفى .
نعم، تفسير الكبائر بما أوعد الله عليها النار مجمل جدّاً ، لأنّه لا يعلم أنّ المراد
- (1) السرائر2 : 118 .
- (2) راجع 3 : 228 .
(الصفحة 248)
بها هو خصوص ما أوعد الله عليها النار في كتابه العزيز ، أو الأعمّ منه وممّا أوعد عليها النار بلسان نبيّه(صلى الله عليه وآله) أو الأئمّة من أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين(1) .
وبالجملة:
فهذه المسألة ـ أي أصل كون المعاصي على قسمين ـ في غاية الإشكال ، خصوصاً مع توصيف الإمام(عليه السلام) في بعض الروايات الواردة في هذا الباب «كل ذنب بأنّه عظيم»(2) ، وخصوصاً مع أنّ الشيخ في التبيان ـ على ما حكي ـ صرّح بعدم كون المعصية على نوعين ، وأنّ اطلاق الصغر والكبر إضافيّ إلى ما فوق وإلى ما تحت ، لا في حدّ ذاته ، كما أنّه حكي عن كتاب عدّته أيضاً(3) ، وحكي عن المفيد والقاضي والتقي والطبرسي، بل يظهر من المحكيّ عن مجمع البيان والعدّة والسرائر أنّ ذلك إتّفاقيّ ، حيث نسب فيها إلى الجميع(4) .
وبالجملة:
فظهور الآيتين والروايات الكثيرة الآتية في أنّ المعاصي على نوعين ، واشتهار ذلك بين المتأخّرين ، حتّى أنّه نسب إلى المشهور تارة، وإلى أكثر العلماء اُخرى، وإلى العلماء ثالثة ، وإلى المشهور المعروف رابعة(5) ، يدلّ على اختلاف المعاصي واتّصاف بعضها بالكبر في حدّ ذاته ، وبعضها بالصغر كذلك ، لكن إنكار جماعة كثيرة التي عرفت جملة منهم بضميمة الاختلاف الواقع في تعداد الكبائر في الروايات كما سيجيء ، ربما يؤيّد كون إطلاق الصغر والكبر إنّما هو بالإضافة إلى ما فوق وإلى ما تحت .
والتحقيق في هذا المقام أن يقال إنّه لا مجال لإنكار الصغر والكبر بقول مطلق
- (1) الوسائل 27 : 391 كتاب الشهادات ب41 ح1 ; وج15 : 318 . أبواب جهاد النفس ب46 ح1 .
- (2) الكافي3: 450 ح31; التهذيب 2: 130 ح502; الوسائل 15: 322 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح5.
- (3) تفسير التبيان 3 : 184 ; عدّة الاُصول 1 : 139 .
- (4) أوائل المقالات : 83 ; المهذّب 2 : 556 ; الكافي في الفقه : 435 ; مجمع البيان 3 : 70; عدّة الاُصول 1: 139; السرائر 2 : 118 .
- (5) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 318 ـ 320 .
(الصفحة 249)
أصلا ، ضرورة أنّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب ليس لها فوق ، وهذا الذي ليس له فوق كما أنّه كبيرة بالنسبة إلى ما تحته من الذنوب كذلك كبيرة في حدّ نفسها وبقول مطلق ، إذ لا يتصوّر فوق بالإضافة إليه كما هو المفروض ، حتّى يكون هذا الذنب صغيرة بالنسبة إليه ، وهكذا الأمر في جانب الصغيرة .
فإنّه مع دعوى الإضافة أيضاً لا محالة ينتهي الأمر إلى ذنب أو ذنوب لم يكن تحته ذنب ، وهذا الذي ليس تحته ذنب كما أنّه صغيرة بالإضافة إلى ما فوقه كذلك هي صغيرة بقول مطلق ، إذ المفروض أنّه ليس تحته ذنب أصلا ، فلا محيص حينئذ عن الالتزام بوجود الكبيرة والصغيرة بقول مطلق أيضاً .
وحينئذ فلا مانع من الأخذ بمقتضى الروايات الدالّة على وجود الكبائر وتعدادها ، غاية الأمر أنّ اختلافها كما سيجيء محمول على اختلاف المراتب ، كما أنّه في نوع واحد من الكبائر يتصوّر المراتب أيضاً ، فإنّ الظلم الذي هو من الكبائر له مراتب يختلف على حسب اختلافها من حيث شدّة المعصية وعدمها ، وكذلك غيره من الكبائر .
وهذا هو الذي يساعده الاعتبار أيضاً ، فإنّ جعل مثل الفرار من الزحف من الكبائر كما في الروايات الدالّة على عدد الكبائر إنّما هو لأجل الآثار المترتّبة عليه غالباً من مغلوبية جمع كثير من المسلمين ، وصيرورتهم مقتولين بأيدي الكفّار ، وهذا لا ينبغي أن يقاس بقتل نفس واحدة ، بل ربما يترتّب عليه ضعف الإسلام وغلبة الكفر كما لايخفى .
كما أنّ جعل مثل الشرك بالله من الكبائر، بل من أكبرها، كما في بعض الروايات(1)، إنّما هو لأجل كونه ظلماً على الله الذي هو معطي الوجود، ومنعم
- (1) الوسائل 15 : 318 . أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب46 ح2 .
(الصفحة 250)
للموجودات ، فجعل موجود آخر شريكاً له في العبادة أو غيرها ظلم لا محالة
{إنّ الشرك لظلم عظيم}(1) .
وبالجملة:
فالظاهر أنّه لا مجال لإنكار اختلاف المعاصي واتّصاف بعضها بالصغر وبعضها بالكبر بقول مطلق .
كلام بحر العلوم في تعداد الكبائر وإشكال
صاحب الجواهر عليه
ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك في عدد الكبائر ، والمحكيّ عن العلاّمة الطباطبائي(رحمه الله)إنّه بعد اختياره ما عليه المشهور، من أنّ الكبائر هي المعاصي التي أوعد الله سبحانه عليها النار أو العذاب ، سواء كان الوعيد بالنار صريحاً أو ضمنيّاً ، حصر الموارد في الكتاب في أربع وثلاثين ، أربعة عشر منها ممّا صرّح فيها بالوعيد بالنار ، وأربعة عشر قد صرّح فيها بالعذاب دون النار ، والبقية ممّا يستفاد من الكتاب وعيد النار عليها ضمناً أو لزوماً .
أمّا ما صرّح فيه بالوعيد بالنار:
فالأوّل:
الكفر بالله العظيم لقوله تعالى:
{والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(2)وغير ذلك وهي كثيرة .
الثاني:
الإضلال عن سبيل الله ، لقوله تعالى:
{ثاني عِطفِه لِيضِلَّ عن سَبَيلِ الله
- (1) لقمان : 13 .
- (2) البقرة: 257 .
(الصفحة 251)
لَه في الدّنيا خِزيٌ ونُذِيقُهُ يَوْمَ القِيامَة عَذابَ الحَريق}(1) ، وقوله تعالى:
{إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم ولهم عذابُ الحريق}(2) .
الثالث:
الكذب على الله تعالى والافتراء عليه ، لقوله تعالى:
{ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة أليس في جهنّم مثوىً للمتكبّرين}(3). وقوله تعالى:
{قل إنّ الذين يفترون على الله الكذب لا يُفلحون* متاع في الدنيا ثمّ إلينا مرجعهم ثمّ نذيقهم العذابَ الشّديدَ بما كانوا يكفرون}(4) ، وقد أورد عليه في الجواهر بأنّه ليس في الآية الثانية ذكر النار(5) .
الرابع:
قتل النفس التي حرّم الله قتلها ، قال الله تعالى:
{ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيماً}(6). وقال عزّوجلّ:
{ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً* ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً}(7) .
الخامس:
الظلم ، قال الله عزّوجلّ:
{إنّا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادِقُها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشرابُ وساءت مرتفقاً}(8) .
- (1) الحج: 9 .
- (2) البروج: 10 .
- (3) الزمر: 60 .
- (4) يونس: 69 ـ 70 .
- (5) جواهر الكلام 13: 311 .
- (6) النساء: 93 .
- (7) النساء: 29 ـ 30 .
- (8) الكهف: 29 .