(الصفحة 271)
للعدالة ، ولكنّ الذنوب التي ليست في أنظار أهل الشرع كبيرة قد يتسامحون في أمرها ، فكثيراً ما لا يلتفتون إلى حرمتها حال الارتكاب أو يلتفتون إليها، ولكن يكتفون في ارتكابها بأعذار عرفيّة مسامحة ، كترك الأمر بالمعروف ، أو النهي عن المنكر ، أو الخروج عن مجلس الغيبة ونحوها حياءً ، مع كونهم كارهين لذلك في نفوسهم .
فالظاهر عدم كون مثل ذلك منافياً لاتّصافه بالفعل عرفاً بكونه من أهل الستر والعفاف والخير والصلاح ، وهذا بخلاف مثل الزنا واللواط ونظائرهما ممّا يرونها كبيرة ، فإنّها غير قابلة عندهم للمسامحة ، وهذا هو الفارق بين ما يراه العرف صغيرة وكبيرة .
فإن ثبت بدليل شرعيّ أنّ بعض الأشياء التي يتسامح فيها أهل العرف ولا يرونها كبيرة كالغيبة مثلا ، حاله حال الزنا والسرقة لدى الشارع ، في كونها كبيرة كشف ذلك عن خطأ العرف في مسامحتهم ، وأنّ هذا أيضاً كالزنا مناف للعدالة مطلقاً ، فالذي يعتبر في تحقق وصف العدالة أن يكون الشخص من حيث هو لو خلّي ونفسه كافّاً نفسه عن مطلق ما يراه معصية ، ومجتنباً بالفعل عن كلّ ما هو كبيرة شرعاً أو في أنظار أهل العرف(1) ، انتهى .
ويرد عليه أنّ صدور الصغيرة إن كان عن توجّه إلى حرمتها حال الارتكاب ، والالتفات إلى كونها منهيّاً عنها ، فالظاهر بمقتضى ما ذكره قدح إرتكابها في العدالة وأنّه لا فرق بينها وبين الكبيرة ، وإن كان صدورها عن الجهل بكونها معصية ومحرّمة ، فلا تكون قادحة في العدالة ، كما أنّ الكبيرة أيضاً إذا صدرت كذلك لا تضرّ بها ، فلم يظهر ممّا أفاده الفرق بينهما ، بل اللاّزم الاستناد في ذلك إلى الصحيحة المتقدّمة بناءً على ما استظهرناه منها كما عرفت .
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 675 .
(الصفحة 272)
ولكن لا يذهب عليك أنّ ما اخترناه من عدم قدح ارتكاب الصغيرة في العدالة إنّما هو في الصغيرة بقول مطلق ، لا الصغيرة الإضافية التي يصدق عليه عنوان الكبيرة أيضاً . ولذا ثمرة هذا البحث قليلة في الغاية ، لاختلاف روايات الخاصّة والعامّة في عدد الكبائر وبيان الضابط لها ، ولأجله يتعسّر الإطّلاع على الصغيرة بقول مطلق ، ولذا لم يكن هذا البحث محرّراً في كلماتهم ومذكوراً فيها منقّحاً .
الإتيان بالكبيرة مانع عن قبول الشهادة
قد اتّفقت آراء المسلمين تقريباً على أنّ مجرّد الإتيان بالكبيرة يمنع عن قبول الشهادة ، وما يجري مجراه من جواز الاقتداء به في الصلاة وغيره(1) ، كما أنّه قد ادّعى الاجماع جماعة من المتأخّرين على أنّ التوبة عن الكبيرة والرجوع عنها تزيل حكم المعصية ، ومعها تقبل الشهادة ويجري سائر أحكام العدالة(2) .
وقد وقع الخلاف في ذلك بين المسلمين ، ومورد الخلاف بينهم مسألة القذف، والمنشأ له هي الآية الشريفة ، وقد تعرّض لهذه المسألة الشيخ(رحمه الله) في كتاب الخلاف في باب الشهادات حيث قال: القاذف إذا تاب وصلح قبلت توبته وزال فسقه بلا خلاف ، وتقبل عندنا شهادته فيما بعد ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وروي عنه أنّه جلّد أبا بكرة حين شهد على المغيرة بالزنا ، ثمّ قال له: تب تقبل شهادتك . وعن ابن
- (1) المبسوط 8 : 217 ; السرائر 2 : 117 ; شرائع الإسلام 4: 116; تحرير الاحكام 2: 208; ذخيرة المعاد : 305; مفتاح الكرامة 3 : 88 ـ 89 ; جواهر الكلام 13 : 322 ـ 333 .
- (2) شرائع الإسلام 4 : 117 ; مختلف الشيعة 8 : 484 ; الدروس 2 : 126; ذخيرة المعاد: 305; مفتاح الكرامة 3: 88 ـ 89; جواهر الكلام 13: 322 ـ 323 .
(الصفحة 273)
عبّاس أنّه قال: إذا تاب القاذف قبلت شهادته ، ولا مخالف لهما ، ثمّ عدّ جماعة من التابعين والفقهاء الموافقين لذلك .
ثمّ قال: وذهبت طائفة إلى أنّها تسقط ، فلا تقبل أبداً ، ذهب إليه في التابعين شريح والحسن البصري والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ، ثمّ قال: والكلام مع أبي حنيفة في فصلين: عندنا وعند الشافعي تردّ شهادته بمجرّد القذف ، وعنده لا تردّ بمجرّد القذف حتّى يجلد ، فإذا جلد ردّت شهادته بالجلد لا بالقذف ، والثاني عندنا تقبل شهادته إذا تاب ، وعنده لا تقبل ولو تاب ألف مرّة(1) .
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم ، والدليل على أنّ ردّ الشهادة يتعلّق بمجرّد القذف ولا يعتبر الجلد قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرمُونَ المُحَصنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُم ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلاَ تَقبلُوا لَهُم شَهَادَةً أَبَدَاً} ، فذكر القذف وعلَّق وجوب الجلد بردّ الشهادة ، فثبت أنّهما يتعلّقان به ، والذي يدلّ على أنّ شهادتهم لا تسقط أبداً قوله تعالى في سياق الآية:
{وَاُولئِك هُم الفَاسِقُونَ* إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(2) .
ووجه الدلالة أنّ الخطاب إذا اشتمل على جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو ، ثمّ تعقّبها استثناء رجع الاستثناء إلى جميعها إذا كانت كلّ واحدة منها ممّا لو انفردت رجع الاستثناء إليها ـ إلى أن قال: ـ فإن قالوا: الاستثناء يرجع إلى أقرب المذكورين ، فقد دلّلنا على فساد ذلك في كتاب اُصول الفقه(3) ، والثاني: أنّ في الآية ما يدلّ على أنّه لا يرجع إلى أقرب المذكورين ، فإنّ أقربه الفسق ـ والفسق يزول
- (1) سنن البيهقي 10: 152 ـ 153 ; المغني لابن قدامة 12 : 74 ـ 75 ; الشرح الكبير 12: 61 ـ 62; المجموع 20: 252; تفسير القرطبي 12 : 179 .
- (2) النور: 4 ـ 5 .
- (3) نهاية الأصول : 363 .
(الصفحة 274)
بمجرّد التوبة ـ وقبول الشهادة لا يثبت بمجرّد التوبة ، بل تقبل بالتوبة وإصلاح العمل (1). إلى آخر ما أفاده فيها .
ولا يخفى أنّ اعتبار الإصلاح مضافاً إلى التوبة ينحصر بباب القذف ، ولا دليل عليه في غير ذلك الباب .
وكيف كان، فلا ينبغي المناقشة في قبول الشهادة وما يجري مجراه بعد التوبة عن المعصية ، نعم ربما يناقش في ذلك بأنّ العدالة هي الملكة النفسانية الكذائية ، على ما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة وبعد زوالها بإتيان الكبيرة لا دليل على عودها بمجرّد التوبة والاستغفار حتّى تقبل شهادته .
ولذا خصّ بعض المعاصرين ـ على ما حكي عنه ـ قبول الشهادة بالتوبة بما إذا عادت معها الملكة التي كانت حاصلة له قبل الإتيان بالكبيرة(2) .
هذا ، ولكن الظاهر أنّ حقيقة العدالة كون الشخص على حال يتعسّر معها صدور المعصية عنه ، وبعد صدورها والتوبة عنها تكون هذه الحالة باقية له ، بل هي التي بعثها على التوبة عن المعصية ، وهذا المقدار يكفي في قبول الشهادة وجواز الاقتداء ونحوهما ، فتدبّر جيّداً .
مسألة: لو انكشف أنّ الإمام فاقد لبعض الشروط
لو لم يكن الإمام واجداً لشيء من شرائط الإمامة كأن لم يكن عادلا واقعاً أو كان محدثاً مثلا، فهل يحكم بصحّة صلاة المأمومين بعد انكشاف الحال أم لا؟ وقد ورد في موارد مخصوصة من هذه المسألة روايات خاصّة من أهل البيت(عليهم السلام) يكون
- (1) الخلاف 6: 260 مسألة 11 .
- (2) كتاب الصلاة للمحقّق النائيني 3 : 390 .
(الصفحة 275)
معمولا بها عند الأصحاب ، فبعضها ورد في مورد الحدث وعدم كون الإمام طاهراً; وبعضها في مورد كفره وعدم كونه مسلماً ، وبعضها في مورد استدباره وعدم كونه مستقبلا .
نعم، قد ورد بعضها فيما إذا لم يكن الإمام مصلّياً واقعاً، بل كان آتياً بصورة الصلاة(1).
ثمّ إنّ هذه المسألة كانت مبحوثاً عنها عند العامّة أيضاً ، وكانت مورداً لاختلافهم ، حيث يقول بعضهم بالصحّة وبعض آخر بالبطلان ، ولهم روايات في ذلك ، لكن موردها خصوص صورة حدث الإمام مع كونه عالماً به(2) ، وكان الشافعي يقول بصحّة صلاة المأمومين لكن لا مع الإمام .
وحينئذ فالاحتمالات المتصوّرة ابتداءً في المسألة ثلاثة:
أحدها:
الصحّة جماعة .
ثانيها:
الصحّة لا مع الإمام .
ثالثها:
البطلان(3) .
أمّا احتمال البطلان، فيدفعه ـ مضافاً إلى الروايات الواردة في المسألة ـ قاعدة الإجزاء المحقّقة في الاُصول ، لأنّ اللاّزم على المأموم إحراز عدالة الإمام ، وكذا سائر الاُمور المعتبرة فيه، وبعد كونه واجداً للشرائط عند المأموم يكون مقتضى قاعدة الإجزاء صحة صلاته وعدم لزوم الإعادة عليه .
نعم، يبقى الكلام بعد ذلك في صحّتها جماعة ، وكذا في إطلاق الحكم بالصحّة
- (1) الوسائل 8 : 371 ب36 وص374 ب37 وص375 ب38 وص376 ب39 .
- (2) سنن البيهقي 2 : 397 ; سنن أبي داود 1 : 60 ح233 و 234 .
- (3) المغني 1 : 741 و ج2 : 34 ; الشرح الكبير 2 : 55 ـ 56 ; المجموع 4 : 260; بداية المجتهد 1: 221; الخلاف 1: 552 ; تذكرة الفقهاء 4 : 314 ـ 317 مسألة 589 ـ 591 .