(الصفحة 286)
وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه في رواية زرارة أنّها تشتمل على ثلاث عبارات:
1 ـ
قوله(عليه السلام) : «ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة . . .» ، وقد عرفت أنّه لا ينبغي الارتياب في أنّ هذه الجملة لا تدلّ على أزيد من حكم استحبابيّ بملاحظة كلمة «ينبغي» وقيام الإجماع بل الضرورة على ذلك .
2 ـ
قوله(عليه السلام) : «إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى . . .» ، الذي يكون العبارة الثانية على ما في الفقيه ، والعبارة الاُولى على ما في الكافي ، وقد عرفت أنّ ظاهرها لا يجتمع مع العبارة الاُولى ، حيث إنّها تدلّ على استحباب كون الفصل أقلّ ممّا لا يتخطّى وهذه ظاهرة في بطلان الجماعة أو أصل الصلاة مع كون الفصل قدر ما لا يتخطّى .
ويمكن الجمع بينهما بوجوه:
أحدها:
حمل هذه العبارة على شدّة تأكّد الاستحباب نظراً إلى أنّ الظاهر كون المراد بما لا يتخطّى في المقامين أمراً واحداً ، وهو المسافة والبعد الذي لا يمكن طيّه بخطوة .
ثانيها:
حمل ما لا يتخطّى في العبارة الاُولى على البعد والمسافة ، وفي هذه العبارة على مقدار العلوّ بمعنى وجود حائل لا يمكن طيّه بخطوة ، بل يحتاج إلى خطوة لأجل الصعود ، واُخرى لأجل النزول ، نظراً إلى تفريع قوله(عليه السلام) : «فان كان بينهم سترة أو جدار . . .» .
ثالثها:
حمل ما لا يتخطّى في هذه العبارة على البعد الذي لا يمكن طيّه بخطوات ، لا بخطوة واحدة فقط .
رابعها:
حمله على البعد الذي لا يمكن طيّه بخطوة في جميع حالات الصلاة التي منها حال السجود كما عرفت . هذا ، وقد ظهر لك أنّ أحسن وجوه الجمع هو
(الصفحة 287)
الوجه الأول .
3 ـ
قوله(عليه السلام) : «فإن كان بينهم سترة أو جدار . . .» ، وهو الدليل الفريد في اعتبار عدم الحائل في باب الجماعة ، لأنّ الروايات الواردة في هذا الباب التي جمعها في الوسائل في أبواب مختلفة ، وإن كانت كثيرة ربما تبلغ ثلاث عشرة رواية ، لكن بعضها لا يرتبط بهذا المقام . وبعضها قد تكرّر نقلها في تلك الأبواب وبعضها تدلّ على عدم مانعية الستر مطلقاً ، أو بالنسبة إلى خصوص النساء ، ولا بأس بإيراد جملة منها فنقول:
منها:
رواية منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إنّي اُصلّي في الطاق يعني المحراب؟ فقال: «لا بأس إذا كنت تتوسّع به»(1) . ولم يظهر لنا ارتباط هذه الرواية بباب الجماعة ، كما أنّه لم يظهر لنا المراد من السؤال والجواب الواقعين فيها .
ومنها:
رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «أقلّ ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنز ، وأكثر ما يكون مربض فرس»(2) . وهذه الرواية أيضاً مجملة وليس فيها إشعار بكونها مرتبطة بباب الجماعة ، كما أنّه ليس المراد بالقبلة هي الكعبة ، بل المراد بها هو الجدار المقابل ، ولعلّ النهي عن الزيادة عن مربض فرس لأجل كونه مع الزيادة عليه يصير قدّام المصلّي مختلف الناس ، وبه يختلّ التوجّه الذي هو المقصود في الصلاة .
ومنها:
رواية الحسن بن الجهم قال: سألت الرضا(عليه السلام) عن الرجل يصلّي بالقوم في مكان ضيّق ويكون بينهم وبينه ستراً ، أيجوز أن يصلّي بهم؟ قال: «نعم»(3) . ويحتمل قويّاً أن يكون الستر تصحيف الشبر ، وعليه فلا ربط لها بباب الحائل ، ولا
- (1) التهذيب 3: 52 ح 181; الوسائل 8: 409 . أبواب صلاة الجماعة ب61 ح 1 .
- (2) الفقيه 1: 253 ح 1145; الوسائل 8 : 410 . أبواب صلاة الجماعة ب62 ح3 .
- (3) التهذيب 3: 276 ح 804 ; الوسائل 8 : 408 . أبواب صلاة الجماعة ب59 ح3 .
(الصفحة 288)
معارضة بينها وبين رواية زرارة المتقدّمة الدالّة على أنّه إن كان بينهم سترة أو جدار فليست تلك لهم بصلاة .
ومنها:
رواية عمّار الدالّة على نفي البأس فيما إذا كان بين النساء وبين إمام القوم حائط أو طريق ، وسيأتي نقلها والتكلّم في مدلولها .
بقي في المقام أمران:
الأمر الأول: هل الشبابيك والجدار من الزجاج مانع من الوحدة أم لا؟
التحقيق في حكمهما أنّه إن قلنا: بأنّ نفي الصلاة مع وجود السترة أو الجدار في رواية زرارة المتقدّمة متفرّع على الحكم بنفيها ، فيما إذا كان بين الصفوف قدر ما لا يتخطّى ، بأن كان الصادر «الفاء» دون «الواو» ، فالظاهر حينئذ بطلان الصلاة مع كون الحائل مشبّكاً أو جداراً من زجاج ، لأنّ الملاك حينئذ هو كون الفاصل قدراً لا يمكن طيّه بخطوة ، لا لأجل المسافة بل لأجل العلوّ والارتفاع ، فالملاك هو ارتفاع الفاصل بذلك المقدار ، ومن المعلوم تحقق هذا الملاك في مثل الشبابيك والجدار من الزجاج . وإن لم نقل بالتفريع أو شككنا فيه ، فالحكم بالصحّة أو البطلان متفرّع على ملاحظة أنّ مانعية الجدار والسترة هل هي لأجل كونهما مانعين عن المشاهدة أو لأجل كونهما مانعين عن تحقق الوحدة المعتبرة في الجماعة؟
ويمكن أن يستفاد من العبارات الواقعة في الرواية صدراً وذيلا ، أنّ المقصود من الجميع اعتبار الوحدة ، وأنّه لابدّ في صلاة الجماعة من ارتباط صلاة المأمومين مع الإمام ، وكذا المأمومين بعضهم مع بعض بحيث تعدّ صلاتهم كأنّه صلاة واحدة صادرة من شخص واحد ، وتحقق هذا الارتباط كما أنّه يتوقّف على ثبوت المقارنة المكانية من جهة عدم الفصل والبعد الكثير بين مواقفهم ، وعدم الحائل من الجدار أو السترة كذلك .
(الصفحة 289)
فمانعية الحائل حينئذ تصير من جهة كونه يمنع عن تحقق الوحدة والارتباط بين الصلوات ، لا من جهة كونه مانعاً عن المشاهدة ، وقد عرفت اعتبار الوحدة في تحقق الجماعة عند العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين ، خلافاً لغيرهم حيث لا يعتبرون المقارنة من حيث المكان أصلا .
نعم، ذكر الشافعي على ما حكي عنه أنّه لابدّ أن لا يكون الفصل بين الإمام والمأموم وكذا بين المأمومين أزيد من ثلاثمائة ذراع(1) ، ومن الواضح أنّه مع رعاية ما ذكره أيضاً لا تحصل الوحدة في كثير من الموارد .
إذا ظهر لك ما ذكرناه ينقدح منه أنّ الشبابيك وكذا الجدار من الزجاج لا تجوز الصلاة خلفهما ، لإخلالهما بالوحدة المعتبرة على ما عرفت . هذا ، ولكن لابدّ مع ذلك من ملاحظة انطباق شيء من العنوانين المذكورين في الرواية ، وهما الجدار والسترة على الشبابيك ، والجدار من الزجاج ، فنقول:
أمّا السترة فلا تصدق على الشبابيك الذي يمكن أن يرى معه بعض أجزاء المصلّين الواقعين خلفه ، لعدم كونه ساتراً بوجه . وأمّا الجدار فالظاهر عدم صدقه عليه أيضاً فلا مانع من حيلولته ، ولذا كان الجدار المخرم مورداً لاستثناء جمع من القدماء كالشيخ في عبارة المبسوط المتقدّمة(2) .
وأمّا الجدار من الزجاج فهو وإن لم يكن في زمان صدور الرواية موجوداً ، وندرة وجوده في هذه الأزمنة أيضاً ، إلاّ أنّ الظاهر انطباق عنوان الجدار عليه ، اللّهم إلاّ أن يقال بانصرافه إلى الجدر الموجودة في تلك الأزمنة ممّا كانت مانعة عن المشاهدة ، ولكن هذا بعيد .
هذا ، ولو شككنا في ذلك وأنّ الجدار من الزجاج أو الشبابيك هل يكون
- (1) المجموع 4 : 303 ـ 304; سنن البيهقي 3 : 257 ـ 259 ; تذكرة الفقهاء 4 : 252 مسألة 551 .
- (2) راجع 3 : 282 .
(الصفحة 290)
مانعاً عن تحقق الجماعة بالنسبة إلى الصفوف الواقعة خلفه أم لا؟ فهل القاعدة تقتضي في ذلك الاشتغال أو البراءة؟ قال بعض مشايخنا بإصبهان: إنّ مقتضى الأصل في مثل المقام وهو كلّ ما يشكّ في اعتباره في باب الجماعة الاشتغال ، نظراً إلى أنّ أصل التكليف معلوم ، والمكلّف مخيّر في امتثاله بين الإتيان بالصلاة فرادى وبين الإتيان بها مع الجماعة ، فإذا صلّى فرادى يحصل له العلم بحصول المكلّف به ، لكون أجزائها وشرائطها معلومة ، وحصوله يستتبع سقوط التكليف ، وأمّا إذا أتى بها في جماعة مع عدم رعاية ما يشكّ في اعتباره ، لا يحصل له العلم بحصول المكلّف به ، والقاعدة مع الشكّ في حصوله تقتضي الاشتغال بلا إشكال .
ويرد عليه أنّا قد حقّقنا في محلّه أنّ الحقّ جريان البراءة عقلا ونقلا فيما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيّين ، وأنّه لا يختصّ جريان البراءة كذلك بما إذا كان المكلّف به بالتكليف التعييني مردّداً بين ذلك ، بل تجري فيما لو كان المكلّف به بالتكليف التخييري مردّداً بينهما أيضاً ، كما في المقام .
هذا ، وقد قرّر المحقّق الحائري(قدس سره) في كتاب صلاته عدم جريان البراءة في مثل المقام بوجه آخر ، وهو أنّ الرجوع إلى البراءة إنّما يصحّ فيما لم يكن هناك دليل اجتهاديّ، وأمّا إذا دلّ دليل اجتهاديّ على عدم صحة العمل مع فقدان القيد المشكوك اعتباره ، فكيف يتمسك بالبراءة؟ والمقام من هذا القبيل ، لأنّ عموم قوله(صلى الله عليه وآله) : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» يقتضي بطلان كلّ صلاة خالية عن فاتحة الكتاب خرج منه الجماعة الواقعية ، فإذا شكّ في اعتبار قيد فيها ولم يدلّ على ثبوته دليل ، ولا إطلاق لدليل الجماعة يدلّ على عدمه ، فالعموم المذكور يقتضي بطلان تلك الصلاة لو ترك القراءة فيها .
وبهذا العموم يستكشف عدم كونها من أفراد الجماعة الواقعية ، فإنّها لو كانت من أفرادها لكانت القراءة ساقطة منها ، ثمّ دفع توهّم جريان حديث الرفع ، بناءً