(الصفحة 290)
مانعاً عن تحقق الجماعة بالنسبة إلى الصفوف الواقعة خلفه أم لا؟ فهل القاعدة تقتضي في ذلك الاشتغال أو البراءة؟ قال بعض مشايخنا بإصبهان: إنّ مقتضى الأصل في مثل المقام وهو كلّ ما يشكّ في اعتباره في باب الجماعة الاشتغال ، نظراً إلى أنّ أصل التكليف معلوم ، والمكلّف مخيّر في امتثاله بين الإتيان بالصلاة فرادى وبين الإتيان بها مع الجماعة ، فإذا صلّى فرادى يحصل له العلم بحصول المكلّف به ، لكون أجزائها وشرائطها معلومة ، وحصوله يستتبع سقوط التكليف ، وأمّا إذا أتى بها في جماعة مع عدم رعاية ما يشكّ في اعتباره ، لا يحصل له العلم بحصول المكلّف به ، والقاعدة مع الشكّ في حصوله تقتضي الاشتغال بلا إشكال .
ويرد عليه أنّا قد حقّقنا في محلّه أنّ الحقّ جريان البراءة عقلا ونقلا فيما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيّين ، وأنّه لا يختصّ جريان البراءة كذلك بما إذا كان المكلّف به بالتكليف التعييني مردّداً بين ذلك ، بل تجري فيما لو كان المكلّف به بالتكليف التخييري مردّداً بينهما أيضاً ، كما في المقام .
هذا ، وقد قرّر المحقّق الحائري(قدس سره) في كتاب صلاته عدم جريان البراءة في مثل المقام بوجه آخر ، وهو أنّ الرجوع إلى البراءة إنّما يصحّ فيما لم يكن هناك دليل اجتهاديّ، وأمّا إذا دلّ دليل اجتهاديّ على عدم صحة العمل مع فقدان القيد المشكوك اعتباره ، فكيف يتمسك بالبراءة؟ والمقام من هذا القبيل ، لأنّ عموم قوله(صلى الله عليه وآله) : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» يقتضي بطلان كلّ صلاة خالية عن فاتحة الكتاب خرج منه الجماعة الواقعية ، فإذا شكّ في اعتبار قيد فيها ولم يدلّ على ثبوته دليل ، ولا إطلاق لدليل الجماعة يدلّ على عدمه ، فالعموم المذكور يقتضي بطلان تلك الصلاة لو ترك القراءة فيها .
وبهذا العموم يستكشف عدم كونها من أفراد الجماعة الواقعية ، فإنّها لو كانت من أفرادها لكانت القراءة ساقطة منها ، ثمّ دفع توهّم جريان حديث الرفع ، بناءً
(الصفحة 291)
على دلالته على رفع الأحكام الوضعية أيضاً ، ثمّ قال: وقد كنت أعتمد على ذلك سابقاً بحيث لم ينقدح لي وجه للتمسك بأصالة البراءة في باب الجماعة ، ولكن اطلعت على عبارة شيخنا المرتضى(قدس سره) في كتابه في صلاة الجماعة في البحث عن الحائل وهو متمسك بالبراءة(1) ، وكيف يخفى على مثله ـ وهو إمام الفنّ واُستاذ كلّ من تأخّر عنه ـ هذه الجهة التي ذكرناها ثمّ بيّن وجه جريان البراءة(2) .
وكيف كان فيرد على ما ذكره ممّا اعتمد عليه سابقاً :
أوّلا:
انّ الخارج عن عموم قوله(صلى الله عليه وآله): «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» ، بمقتضى لسان الروايات ليس هي الجماعة الواقعية ، بل الموجود فيها هو النهي عن القراءة خلف من يصلّي خلفه أو خلف من يقتدي به ، في مقابل من لا يكون قابلا للاقتداء لفساد مذهبه ، ومن الواضح وجود هذا العنوان في مثل المقام فتدبّر .
وثانياً:
إنّه لو سلّم كون الخارج عنوان الجماعة الواقعية فنقول مع الشكّ في وجود هذا العنوان لا مجال للتمسّك بذلك العموم ، لأنّه يصير من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص ، وهو غير جائز على ما اختاره واخترناه ، فتدبّر .
الأمر الثاني: حكم النساء في باب الحائل
قال الشيخ في النهاية: وقد رخّص للنساء أن يصلّين إذا كان بينهنّ وبين الإمام حائط(3) . وظاهره العمل بما يدلّ على هذا الترخيص كما في التهذيب(4) ، ووافقه
- (1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري : 284 .
- (2) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 469 ـ 470 .
- (3) النهاية : 117 .
- (4) التهذيب 3: 53 ح 183 .
(الصفحة 292)
على ذلك سلاّر وابن حمزة الطوسي(1) ، ولكنّه لم يقع التعرّض لحكم النساء في المبسوط والخلاف والمهذّب والكافي والغنية ، وقد اختار الحلّي عدم استثنائهنّ(2)وهو الذي يظهر من الصدوق ، حيث روى في ذيل حديث زرارة المتقدّمة الواردة في الحائل أنّه قال: «وقال أبو جعفر(عليه السلام): أيّما امرأة صلّت خلف إمام وبينها وبينه ما لا يتخطّى فليس لها تلك بصلاة»(3) ، اللّهم إلاّ أن يقال: إنّه حمل ما لا يتخطّى على خصوص البعد ، لا الحائل ولا الأعمّ منهما .
ولعلّه الظاهر من العبارة ، حيث روى بعد ذلك بلا فصل قوله: قلت: فإن جاء إنسان يريد أن يصلّي كيف يصنع وهي إلى جانب الرجل؟ قال: «يدخل بينها وبين الرجل ، وتنحدر هي شيئاً» فإنّ الظاهر من ذلك أنّ المراد هو البعد والمسافة الواقعة بينهما .
وكيف كان، فالدليل في هذا الباب على ترخيص ذلك للنساء رواية عمّار ، قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يصلّي بالقوم وخلفه دار وفيها نساء ، هل يجوز لهنّ أن يصلين خلفه؟ قال: «نعم ، إن كان الإمام أسفل منهنّ» . قلت: فإن بينهنّ وبينه حائطاً أو طريقاً؟ فقال: «لا بأس»(4) .
هذا ، وفي دلالة الرواية على جواز ذلك للنساء خاصّة وعدم كون السترة مانعة عن صحة صلاتهنّ إشكال ، حيث إنّه لا يظهر منها اختصاص ذلك بالنساء حتّى تخصص بها رواية زرارة المتقدّمة الدالّة على مانعية السترة أو الجدار مطلقاً ، بناءً على عدم اختصاص لفظ «القوم» الواقع فيها بالرجال ، كما ربما يدّعى .
- (1) المراسم: 87 ; الوسيلة : 106 .
- (2) السرائر 1: 283 .
- (3) الفقيه 1: 253 ح1144; الوسائل 8 : 410 . أبواب صلاة الجماعة ب 62 ح 2 .
- (4) التهذيب 3: 53 ح183; الوسائل 8: 409 . أبواب صلاة الجماعة ب60 ح1 .
(الصفحة 293)
هذا، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ اعتبار عدم الحائل إنّما هو لأجل التحفّظ على الوحدة التي بها تتقوّم الجماعة ، فتخصيص ذلك بالرجال فقط في غاية البعد . وإلى أنّ الرواية تشتمل على نفي البأس عن فصل الطريق مع كونه بحسب الغالب قدر ما لا يتخطّى .
اللّهم إلاّ أن يقال: إنّه لابدّ بملاحظة رواية الصدوق التي عرفت من حمل الطريق في هذه الرواية على الأقلّ ممّا لا يتخطّى من البعد والمسافة ، وأنّ التخصيص بالرجال مع كون اعتبار عدم الحائل لأجل حفظ الوحدة إنّما هو لأجل أنّ اجتماع النساء مع الرجال واختلاطهن بهم مشتمل على مفسدة عظيمة ، وهي التي لوحظت في الحكم بعدم قدح الحائل للنساء .
وكيف كان، فلا محيص عن موافقة الشيخ(رحمه الله)والحكم باختصاص النساء بعدم كون مثل الحائط مانعاً عن تحقق الجماعة بالنسبة إليهنّ .
الثالث من شرائط الجماعة : عدم علو الإمام على المأموم
من الأمور المعتبرة في الجماعة، عدم علو الإمام عن المأمومين في الجملة ، قال الشيخ في النهاية: ولا يجوز أن يكون الإمام على موضع مرتفع من الأرض ، مثل دكان أو سقف وما أشبه ذلك ، فإن كان أرضاً مستوياً لا بأس بوقوفه عليه ، وإن كان أعلى من موضع المأمومين بقليل ، ولا بأس للمأمومين أن يقفوا على موضع عال ، فيصلّوا خلف الإمام إذا كان الإمام أسفل منهم(1) ، انتهى .
ومستند هذا الحكم من طرق الإمامية حديث واحد مضطرب المتن ، رواه عمّار الساباطيّ الفطحي عن أبي عبدالله(عليه السلام) ، وأخرجه الكليني عن أحمد بن
(الصفحة 294)
إدريس وغيره ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أحمد بن الحسن بن عليّ ، عن عمرو بن سعيد ، عن مصدق ، عن عمّار . ورواه الصدوق بإسناده عنه ، والشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب الكليني .
ومتن الحديث هكذا: قال: سألته عن الرجل يصلّي بقوم وهم في موضع أسفل (في الفقيه: سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن الإمام يصلّي وخلفه قوم أسفل) من موضعه الذي يصلّي فيه؟ فقال: «إن كان الإمام على شبه الدكّان ، أو على موضع أرفع من موضعهم لم تجز صلاتهم ، فإن كان (في الفقيه: وإن كان) أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقل إذا كان الارتفاع ببطن مسيل(1) فإن كان أرضاً مبسوطة (في الفقيه: وإن كانت الأرض مبسوطة) ، أو كان في موضع منها ارتفاع ، (في الفقيه: وكذلك متن التهذيب: وكان) فقام الإمام في الموضع المرتفع وقام من خلفه أسفل منه ، والأرض مبسوطة إلاّ انّهم في موضع منحدر؟ قال: لا بأس» ، (في الفقيه: إلاّ أنّها موضع منحدر فلا بأس به) .
قال: وسئل: فإن قام الإمام أسفل (في التهذيب: وإن كان الإمام في أسفل) من موضع من يصلّي خلفه؟ قال: «لا بأس . وقال: إن كان الرجل فوق بيت (في التهذيب سطح) أو غير ذلك دكّاناً كان أو غيره ، وكان الإمام يصلّي على الأرض أسفل منه جاز للرجل أن يصلّي خلفه ويقتدي بصلاته، وإن كان أرفع منه بشيء كثير(2)»(3) .
- (1) كما في نوع من النسخ ، وهو الموضع المنحدر لأجل جريان السيل ، وفي التهذيب: إذا كان الإرتفاع منهم بقدر شبر أو بقدر يسير كما في (خ ل ، منه) ، وفي الفقيه: إذا كان الارتفاع بقطع سيل وفي نسخة بقطع سئل .
- (2) في نسخة من التهذيب : بشيء يسير .
- (3) الكافي 3: 386 ح9; الفقيه 1 : 253 ح1146; التهذيب 3: 53 ح185; الوسائل 8 : 411 . أبواب الجماعة ب63 ح1 .