(الصفحة 296)
عنه ـ لا وجه له ، لأنّ الاضطراب لا يوجب طرح الرواية رأساً ، بل غايته الاقتصار على القدر المتيقّن ممّا يستفاد منها .
فنقول في المقام:
لا خفاء في أنّه يستفاد من الرواية أنّه إن قام الإمام على شبه الدكّان أو السقف ، والمأمومون على الأرض لا تكون صلاتهم بمجزية ، ولا يخفى أنّ مثل الدكّان والسقف له ثلاث جهات:
الاُولى:
كونه مرتفعاً عن الأرض وعالياً عليها بالعلوّ الدفعي .
الثانية:
كونه مشتملا على البناء .
الثالثة:
كون ارتفاعه بحسب الغالب أزيد من إصبع بكثير .
لا إشكال في أنّ الجهة الثانية لا خصوصية لها بنظر العرف ، لأنّه لا يكاد يرى لها مدخلا في الحكم بعدم الجواز أو الأجزاء ، فلا ينبغي المناقشة في إلغائها ، وإنّه لو كان المكان المرتفع بالوجه المذكور غير مشتمل على البناء لا تكون صلاة المأمومين الواقفين على الأرض بمجزية أيضاً .
إنّما الإشكال في الجهتين الباقيتين ، فنقول: قوله(عليه السلام) : «فإن كان أرفع منهم بقدر اصبع أو أكثر أو أقلّ إذا كان الارتفاع ببطن مسيل . . .» ، الظاهر أنّه شرط وجزاؤه مع الشرطين الآخرين ، وهما قوله: «إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» وقوله: «فإن كان أرضاً مبسوطة» هو قوله: «لا بأس» ، ولا مجال لجعل «إن» في هذه الجملة أعني قوله: «فإن كان أرفع منهم» وصليّة ، وإن كانت مبتدأة بالواو دون الفاء ، لأنّ مفادها يناقض الجملة الاُولى الدالّة على عدم جواز صلاة المأمومين مع كون الامام على شبه الدكّان .
فلابدّ من أن تكون جملة شرطية ، وجزاؤها ما يدلّ على عدم البأس ، ومحصّل هذه القضية الشرطية المركّبة من ثلاثة شروط وجزاء واحد ، إنّه إذا كانت هنا أرضاً منحدرة كبطن مسيل وقام الإمام في الموضع المرتفع والمأمومون في
(الصفحة 297)
أسفله ، وكان علوّ الإمام بقدر إصبع أو أكثر أو أقلّ فلا بأس بصلاتهم ، وأمّا لو كان الارتفاع والعلوّ الدفعي بهذا المقدار الذي يقرب الإصبع أو كان انحدار الأرض وارتفاعه وانخفاضه أزيد من ذلك المقدار ، فلا يستفاد حكم شيء منهما من الرواية .
نعم، لا يبعد دعوى أنّ العرف لا يكاد يرى لخصوصية الانحدار ، فيما إذا لم يكن ارتفاعه أزيد من أكثر من إصبع مدخلا في الحكم بعد البأس ، فإذا كان العلوّ بما يقرب الإصبع من المقدار غير قادح في تحقق الجماعة فيما إذا كانت الأرض منحدرة ، ففيما إذا لم تكن كذلك يكون هذا المقدار منه مغتفراً أيضاً .
هذا إنّما هو على تقدير كون الشرط الثاني: «إذا كان الإرتفاع ببطن مسيل» ، وأمّا على تقدير أن يكون الشرط: «إذا كان الإرتفاع بقدر شبر أو بقدر يسير» ، فالجملة تدلّ بنفسها على أنّ المقدار القريب من الإصبع لا بأس به ، وإن كان العلوّ دفعياً لا تدريجياً ، كما أنّه لا ينحصر ذلك بما إذا كان العلوّ بهذا المقدار من نفس الأرض ، أي غير مصنوع بفعل صانع ، فإذا كان العلوّ بمقدار يسير بفعل فاعل أوجد هذا العلوّ ، لا يكون ذلك بقادح أيضاً ، ولذا عرفت في عبارة الشيخ(قدس سره)(1) أنّه جعل المدار هي قلّة العلوّ من غير اعتبار الانحدار أصلا .
وكيف كان، فلا ينبغي بملاحظة الرواية الخدشة في أصل الحكم ، نعم ربما يناقش فيه نظراً إلى عدم ظهور قوله(عليه السلام): «لم تجز صلاتهم» في بطلانها ، أو إلى احتمال كون الصادر «لم تحسن صلاتهم» ، كما في محكيّ بعض نسخ الفقيه . هذا ، ولكنّ الظاهر خلاف ذلك ، لظهور «لم تجز صلاتهم» بملاحظة نظائره من الاستعمالات في البطلان والفساد ، واحتمال كون الصادر: «لم تحسن» لا أساس له ،
(الصفحة 298)
لأنّ النسخ الخطيّة الصحيحة من الفقيه مشتملة على قوله «لم تجز» ، وعلى تقديره فلا ظهور له أيضاً في الكراهة كما لايخفى .
هذا ، ولكن مع ذلك كلّه قد خالف في أصل الحكم الشيخ في محكيّ الخلاف(1) ، مدّعياً عليه الإجماع ، وتردّد فيه المحقّق في الشرائع(2) ، ولعلّ منشأ تردّده ما روي من أنّ عماراً(رضي الله عنه) تقدّم للصلاة ، فقام على دكّان والناس أسفل منه ، فتقدّم حذيفة فأخذ بيده حتّى أنزله ، فلمّا فرغ من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله(صلى الله عليه وآله)يقول: «إذا أمَّ الرجل القوم فلا يقومنّ في مكان أرفع من مقامهم»؟ قال عمّار: فلذلك اتّبعتك حين أخذت على يديَّ .
وروي أيضاً أنّ حذيفة أمَّ بالمدائن على دكّان ، فأخذ عبدالله بن مسعود بقميصه فجذبه ، فلمّا فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنّهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى فذكرت حين جذبتني(3) . والظاهر اتّحاد القضيّة وأنّ اختلاف الروايتين إنّما نشأ من سهو بعض الرواة ، وعلى أيّ تقدير فالمحكيّ عن الحدائق أنّه قال بعد نقل الخبرين عن الذكرى: إنّ هذين الخبرين من روايات العامّة أو من الأصول التي وصلت إليه ولم تصل إلينا(4) .
وبالجملة:
فالظاهر إنّه لا مجال للمناقشة والترديد في أصل الحكم على طريقة الإمامية ، نعم ذهب الجمهور إلى الكراهة نظراً إلى الروايتين(5) واستثنوا منها أيضاً صورة قصد الإمام التعليم ، فإنّه لا يكره له القيام في مكان عال ، مستندين في ذلك
- (1) الخلاف 1: 556 مسألة 301 .
- (2) شرائع الإسلام 1: 113 .
- (3) سنن البيهقي 3: 108 ـ 109; سنن أبي داود 1: 163 ح 597 ـ 598; ـ وفيه في الحديث الثاني: «فجبذه» وهو لغة في جذب . النهاية لابن الأثير 1: 235 ـ تذكرة الفقهاء 4: 260 الشرط الخامس .
- (4) الذكرى 4 : 433 ; الحدائق11: 111 .
- (5) المغني لابن قدامة 2: 41; الشرح الكبير 2 : 78 .
(الصفحة 299)
إلى ما روي من قصّة تعليم النبيّ(صلى الله عليه وآله) الصلاة ، حيث إنّه صلّى على المنبر ورجع رجوع القهقرى لأجل السجود ، ثمّ عاد إلى المنبر وقال بعد الفراغ منها: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(1) .
وقد عرفت أنّهم لا يقولون بقادحيّة البعد أيضاً وإن كان كثيراً ، نعم حكي عن الشافعي أنّه قال: لابدّ أن لا يكون الفصل أزيد من ثلاثمائة ذراع(2) ، ولكنّا لم نظفر به بعد التتبّع في كتبه . وعرفت أيضاً أنّ مقتضى رواية زرارة المتقدّمة(3) اعتبار أن لا يكون الفصل كثيراً لا يمكن طيّه بخطوة ، وإن كان يبعد اعتبار هذا المقدار قولهم بجواز اقتداء المأموم المسبوق والركوع قبل الوصول إلى الصفّ والالتحاق به بعده كما لا يخفى .
الرابع من شرائط الجماعة: عدم تقدّم المأموم على الإمام
من الاُمور المعتبرة في الجماعة، عدم تقدّم المأموم على الإمام ، واعتبار ذلك ممّا انعقد عليه الاجماع(4) ، بل كاد أن يكون ضروريّاً عند المتشرّعة فلا إشكال في ذلك ، كما أنّه لا إشكال في استحباب المساواة في المأموم الواحد ، ووقوعه عن يمين الإمام إن كان رجلا أو صبيّاً ، والتأخّر في المأموم المتعدّد أو الواحد إذا كان اُنثى(5) ، خلافاً لصاحب الحدائق(رحمه الله) حيث أوجب التأخّر في المتعدّد والمساواة في الواحد ،
- (1) صحيح مسلم 3 : 29 ح544; سنن البيهقي 3: 108; تذكرة الفقهاء 4: 261 ذ الشرط الخامس .
- (2) راجع 3 : 289 .
- (3) الوسائل 8: 410 . أبواب صلاة الجماعة ب62 ح1 ـ2 .
- (4) الخلاف 1: 555 مسألة 299; المعتبر 2: 422; تذكرة الفقهاء 4: 239; جواهر الكلام 13: 221; مستند الشيعة 8: 72; مدارك الأحكام 4: 330; مفاتيح الشرائع 1: 161 .
- (5) الخلاف 1: 554 مسألة 296; تذكرة الفقهاء 4: 242 ـ 247 مسألة 543 ـ 547; جواهر الكلام 13: 221 ـ 227; مستند الشيعة 8 : 110 ـ 113; رياض المسائل 4 : 318 و 377 .
(الصفحة 300)
مستدلاًّ عليه بتكاثر الأخبار واستفاضتها بأنّه متى كان المأموم متّحداً فموقفه عن يمين الإمام ، والمتبادر منه المحاذاة ، وإن كانوا أكثر فموقفهم خلفه ، ثمّ قال: وحينئذ فحكمهم بالاستحباب في كلّ من الموقفين ـ مع دلالة ظواهر الأخبار على الوجوب من غير معارض سوى مجرّد الشهرة بينهم ـ تحكّم محض(1) ، انتهى .
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّه لا محيص عن الالتزام بالاستحباب نظراً إلى الشهرة ، نعم، يقع الإشكال في الصلاة حول الكعبة المشرّفة ، بحيث كانت الصفوف المتشكّلة مستديرة ، فإنّه يصدق على بعض المأمومين الواقعين في الجهة المقابلة للإمام أنّهم متقدّمون على الإمام ، كما أنّه يصدق على الإمام أيضاً التقدّم عليهم .
والإشكال في الصحّة ينشأ ممّا ذكر من صدق التقدّم على بعض المأمومين ، ومن استقرار السيرة على ذلك من الصدر الأول ، كما أنّه يؤيّده تعرّض الشافعي لحكم هذه الصلاة(2) ، مع كونه في النصفّ الأخير من القرن الثاني . هذا ، وربما يرجّح هذا الوجه نظراً إلى أنّ السيرة وإن لم تكن متحقّقة في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ولا من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) ، وعدم إظهارهم الانكار يكشف عن الرضا والامضاء ، لأنّهم وإن لم يكونوا مبسوطي اليد ، إلاّ أنّه لم يكن مانع عن إظهار الانكار عند أصحابهم ، كسائر البدع التي شدّدوا النكير عليها .
هذا ، ولكن يمكن أن يقال بكفاية الأخبار الظاهرة في وجوب كون موقف المأمومين خلف الإمام(3) ، في مقام الردع والانكار ، لأنّه ليس الملحوظ التقدّم بالنسبة إلى الكعبة والتأخّر عنها ، حتّى لا يصدق على واحد من المأمومين في الصورة المفروضة التقدّم بالنسبة إليها ، بل الظاهر من التقدّم هو التقدّم في الجهة
- (1) الحدائق11: 116 .
- (2) المجموع 4: 300; تذكرة الفقهاء 4: 241 مسألة 542 .
- (3) الوسائل 8: 341 . أبواب صلاة الجماعة ب23 .