(الصفحة 300)
مستدلاًّ عليه بتكاثر الأخبار واستفاضتها بأنّه متى كان المأموم متّحداً فموقفه عن يمين الإمام ، والمتبادر منه المحاذاة ، وإن كانوا أكثر فموقفهم خلفه ، ثمّ قال: وحينئذ فحكمهم بالاستحباب في كلّ من الموقفين ـ مع دلالة ظواهر الأخبار على الوجوب من غير معارض سوى مجرّد الشهرة بينهم ـ تحكّم محض(1) ، انتهى .
هذا ، ولكنّ الظاهر أنّه لا محيص عن الالتزام بالاستحباب نظراً إلى الشهرة ، نعم، يقع الإشكال في الصلاة حول الكعبة المشرّفة ، بحيث كانت الصفوف المتشكّلة مستديرة ، فإنّه يصدق على بعض المأمومين الواقعين في الجهة المقابلة للإمام أنّهم متقدّمون على الإمام ، كما أنّه يصدق على الإمام أيضاً التقدّم عليهم .
والإشكال في الصحّة ينشأ ممّا ذكر من صدق التقدّم على بعض المأمومين ، ومن استقرار السيرة على ذلك من الصدر الأول ، كما أنّه يؤيّده تعرّض الشافعي لحكم هذه الصلاة(2) ، مع كونه في النصفّ الأخير من القرن الثاني . هذا ، وربما يرجّح هذا الوجه نظراً إلى أنّ السيرة وإن لم تكن متحقّقة في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ولا من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) ، وعدم إظهارهم الانكار يكشف عن الرضا والامضاء ، لأنّهم وإن لم يكونوا مبسوطي اليد ، إلاّ أنّه لم يكن مانع عن إظهار الانكار عند أصحابهم ، كسائر البدع التي شدّدوا النكير عليها .
هذا ، ولكن يمكن أن يقال بكفاية الأخبار الظاهرة في وجوب كون موقف المأمومين خلف الإمام(3) ، في مقام الردع والانكار ، لأنّه ليس الملحوظ التقدّم بالنسبة إلى الكعبة والتأخّر عنها ، حتّى لا يصدق على واحد من المأمومين في الصورة المفروضة التقدّم بالنسبة إليها ، بل الظاهر من التقدّم هو التقدّم في الجهة
- (1) الحدائق11: 116 .
- (2) المجموع 4: 300; تذكرة الفقهاء 4: 241 مسألة 542 .
- (3) الوسائل 8: 341 . أبواب صلاة الجماعة ب23 .
(الصفحة 301)
الخاصّة التي توجّه إليها الإمام ، وحينئذ فيظهر بطلان الجماعة في الصورة المفروضة من المأمومين الواقفين في مقابل الإمام .
ثمّ إنّه اعتبر بعض العامّة في الجماعة أمراً آخر عدا الاُمور الأربعة التي ذكرناها ، وهو تتميم الصفوف وعدم تشكيل صفّ قبل تمامية الصفّ المتقدّم ، وأنّه متى كان في الصفّ المتقدّم محلّ للمأموم الداخل لا يجوز له الوقوف خلف ذلك الصفّ(1) ، وكذا اعتبر بعض المتأخّرين من الخاصّة أيضاً أمراً آخراً ، وهو المتابعة في الأفعال بل الأقوال ، وسيأتي التكلّم في اعتبارها .
إذا نوى الاقتداء ثمّ انكشف فقدان بعض ما يعتبر في الجماعة
إذا نوى الاقتداء وصلّى ثمّ انكشف فقدان بعض ما يعتبر في الجماعة من الأوصاف المعتبرة في الإمام ، أو خصوصيّات النسبة بين موقف الإمام والمأموم ، سواء انكشف فقدانه من أوّل الأمر أو من الأثناء ، كما إذا انكشف وقوفه في موضع عال بقدر معتدّ به ، أو تحقق البعد الكثير أو الحائل القادح بينه وبين المأموم ، أو تقدّم المأموم على الإمام أو غير ذلك من الاُمور المعتبرة في صحة الصلاة جماعة ، لا في صحة أصل الصلاة .
فإن أخلّ بوظائف المنفرد كما إذا أخلّ بالقراءة في الأوليين أو زاد ركناً لأجل المتابعة ، أو رجع في شكّه إلى حفظ الإمام وبنى عليه مع كون مقتضى الأصل خلافه ، فلا إشكال في بطلان أصل صلاته كبطلان جماعته ، وإن لم يخلّ بوظائف المنفرد ففي صحة أصل صلاته بعد بطلان جماعته إشكال .
ولا يذهب عليك أنّ هذه المسألة ممّا تفطّن لها المتأخّرون ، ولم يقع لها تعرّض
- (1) المغنى لابن قدامة 2: 42; الشرح الكبير 2 : 64; المجموع 4: 298 ; تذكرة الفقهاء 4: 249 مسألة 549 .
(الصفحة 302)
في كتب القدماء بهذا العنوان ، لا من أصحابنا الإمامية ولا من العامة .
نعم، يظهر من تعرّضهم لبعض فروعات المسألة القول ببطلان أصل الصلاة ، كما يظهر من تتبّع كتب الشيخ وغيره . ولنذكر بعضاً من العبارات الظاهرة في ذلك فنقول:
قال الشيخ في الخلاف: لا يجوز أن يؤمّ اُمّي بقارئ فإن فعل أعاد القارئ الصلاة . وقال فيه أيضاً: إذا وقف المأموم قدّام الإمام لم تصح صلاته . وقال فيه أيضاً: إذا صلّى في مسجد جماعة وحال بينه وبين الإمام والصفوف حائل لا تصح صلاته(1) .
وقال في المبسوط: إذا رأى رجلين يصلّيان فرادى ، فنوى أن يأتمّ بهما لم تصحّ صلاته ، لأنّ الاقتداء بإمامين لا يصحّ . وقال : وإذا نوى أن يأتمّ بأحدهما لا بعينه لم يصحّ .
وقال: إذا صلّى رجلان فذكر كلّ واحد منهما أنّه إمام صحّت صلاتهما ، وإن ذكر كلّ واحد منهما أنّه مأموم بطلت صلاتهما ، وإن شكّا فلم يعلم كلّ واحد منهما أنّه إمام أو مأموم لم تصحّ أيضاً صلاتهما ، لأنّ الصلاة لا تنعقد إلاّ مع القطع(2) . وأيضاً حكم ببطلان صلاة المأموم فيما إذا تقدّم على الإمام ، وكذا فيما إذا كان بينه وبين الإمام البعد المفرط ، وكذا فيما إذا كان بينهما حائل . إلى غير ذلك من كلماته الظاهرة في بطلان أصل الصلاة مع كون مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين ما لو أخلّ بوظائف المنفرد وما لو لم يخل(3) .
وقال السيّد في الانتصار في مسألة الاقتداء بولد الزناء: الظاهر من مذهب
- (1) الخلاف 1: 550 ، 555 ، 556 مسألة 291 و299 و300 .
- (2) المبسوط1: 152 و 153 .
- (3) المبسوط 1 : 155 ـ 156 .
(الصفحة 303)
الإمامية أنّ الصلاة خلفه غير مجزئة ، والوجه في ذلك والحجّة له الاجماع وطريقة براءة الذمّة(1) . وقال في مسألة المنع من إمامة الفاسق: دليلنا الاجماع المتكرّر وطريقة اليقين ببراءة الذمّة . . .(2) .
وقال القاضي في المهذب: إذا رأى إنسان رجلين يصلّيان ونوى الائتمام بواحد منهما غير معيّن لم تصحّ صلاته ، وإذا رأى اثنين يصلّيان ، أحدهما مأموم والآخر إمام، فنوى الائتمام بالمأموم لم تصحّ صلاته ، وإذا صلّى رجلان فذكر كلّ منهما . . . أنّه مأموم لم تصحّ صلاتهما(3) .
وقال الحلّي في السرائر: وإذا اختلفا ، فقال كلّ واحد منهما للآخر كنت أئتمّ بك ، فسدت صلاتهما وعليهما أن يستأنفا(4) . وقال أيضاً: ولا تصحّ الصلاة إلاّ خلف معتقد الحقّ بأسره ، عدل في ديانته . . .(5) .
وقال المحقّق في المعتبر: ولا تصحّ وبين الإمام والمأموم حائل يمنع المشاهدة ، وهو قول علمائنا . وقال فيه أيضاً: ولا يقف المأموم قدّام الإمام ، وتبطل به صلاة المؤتم وهو قول علمائنا . . .(6) .
وقال العلاّمة في القواعد: الثالث: عدم تقدّم المأموم في الموقف على الإمام ، فلو تقدّمه المأموم بطلت صلاته(7) ، وفي مفتاح الكرامة في شرح هذه العبارة: قد نقل الإجماع على هذا الشرط في التذكرة ، ونهاية الأحكام في آخر كلامه ،
- (1) الانتصار : 158 .
- (2) الإنتصار : 157 .
- (3) المهذّب 1: 81 .
- (4) السرائر 1 : 288 .
- (5) السرائر 1 : 280 .
- (6) المعتبر2: 416 و 422 .
- (7) قواعد الأحكام 1 : 314 .
(الصفحة 304)
والمنتهى ، والذكرى ، والغريّة ، وإرشاد الجعفرية ، والمدارك ، والمفاتيح ، وظاهر المعتبر ، والكفاية . وفي الأول والرابع والخامس الاجماع على أنّه لو تقدّمه بطلت سواء كان عند التحريمة أو في أثناء الصلاة(1) .
وفي القواعد أيضاً: السادس عدم علوّ الإمام على موضع المأموم بما يعتدّ به ، فتبطل صلاة المأموم لو كان أخفض(2) . وفي مفتاح الكرامة في شرح العبارة : عند علمائنا كما في التذكرة، وعملا برواية عمّار المؤيّدة بعمل الأصحاب ، إذ ليس لها في الفتوى مخالف(3) . . . . وفي القواعد أيضاً: ولو نوى كلّ من الإثنين الإمامة لصاحبه صحّت صلاتهما ، ولو نويا الائتمام أو شكّا فيما أضمراه بطلتا(4) .
وفي المفتاح في شرحه: أمّا البطلان في الأول فعليه الاجماع ، كما في التذكرة ونهاية الأحكام ، وعمل الأصحاب كما في الروض والمسالك والذخيرة(5) . وفي التحرير حكم ببطلان صلاة المأموم إذا كان أسفل أو متقدّماً على الإمام ، وفيما إذا ائتمّ القارئ بالاُمّي(6) إلى غير ذلك من العبارات الظاهرة في بطلان أصل الصلاة .
ودعوى كون الغالب الاخلال بوظائف المنفرد ، وعليه ينزل إطلاق عبائرهم .
مدفوعة بعد ملاحظة كثرة المأموم المسبوق بركعتين أو أزيد ، وعدم سقوط القراءة في الأخيرتين ، وبعد ملاحظة جواز القراءة في الأوليين مع عدم سماع قراءة الإمام في الصلوات الجهرية ولو همهمة ، بل لعلّه كان المشهور وجوبها في هذه الصورة وبعد ملاحظة قلّة موارد زيادة الركن لأجل المتابعة ، وكذا الرجوع إلى
- (1) مفتاح الكرامة 3 : 417 .
- (2) قواعد الأحكام 1 : 315 .
- (3) مفتاح الكرامة 3 : 427 .
- (4) قواعد الأحكام 1 : 315 .
- (5) مفتاح الكرامة 3: 431 .
- (6) تحرير الأحكام 1 : 51 و 53 .