(الصفحة 363)
يجب عليه أن يجعل ما أدركه أوّل صلاته ، بأن يقرأ فيما يدركه من ركعة أو ركعتين فاتحة الكتاب وسورة(1) ، خلافاً للعامّة حيث إنّهم متفقون في أنه يجعل آخر صلاته أوّله وأوّل صلاته آخره ، ويصير ما لم يدركه من أوّل صلاته قضاءً .
نعم ، ظاهر الشافعي الحكم بمثل مقالة الإمامية وإن اختلف معنا في بعض الفروع ، كما أنّ ما عداه من أئمّتهم مختلفون في بعض الفروع ، وإن اتّفقوا في جعل الأوّل آخراً وبالعكس(2) ، وعليه فيجوز للمأموم التسبيح في الركعة أو الركعتين بناءً على القول بوجوبه ، بل لا يجب عليه شيء من القراءة والتسبيح بناءً على القول بعدم وجوب شيء في الأخيرتين ، كما ذهب إليه أبو حنيفة(3) .
هذا ، والأخبار الواردة من العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين ، الظاهرة بل الصريحة في إنكار ما عليه العامّة ، من جعل الأوّل آخراً وبالعكس كثيرة ، وقد جمعها في الوسائل في باب 47 من أبواب الجماعة ، ولا بأس بنقل بعضها فنقول :
منها :
رواية الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال : «إذا فاتك شيء مع الإمام فاجعل أوّل صلاتك ما استقبلت منها ، ولا تجعل أوّل صلاتك آخرها»(4) .
ومنها :
رواية عبدالرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يدرك الركعة الثانية من الصلاة مع الإمام وهي له الاُولى ، كيف يصنع إذا جلس الإمام؟ قال : «يتجافى ولايتمكّن من القعود ، فإذا كانت الثالثة للإمام وهي له
- (1) المعتبر2 : 446; المنتهى 1 : 383; تذكرة الفقهاء4 : 321; نهاية الأحكام 2 : 134; روض الجنان : 376; رياض المسائل 4 : 365 .
- (2) المغني لابن قدامة 2 : 260; الشرح الكبير 2 : 11; المجموع 4 : 220; تذكرة الفقهاء 4 : 321 مسألة 594 ; وليس بينهم في المسألة اتّفاق ، بل هم على قولين; راجع تذكرة الفقهاء في هذه المسألة .
- (3) المجموع 3 : 361; المغني لابن قدامة 1 : 561; الشرح الكبير 1 : 560; تذكرة الفقهاء 3 : 144 .
- (4) الفقيه 1 : 263 ح1198; الوسائل 8 : 386 .أبواب صلاة الجماعة ب47 ح1 .
(الصفحة 364)
الثانية فليلبث قليلا إذا قام الإمام بقدر ما يتشهّد ثمّ يلحق بالإمام» قال : وسألته عن الرجل الذي يدرك الركعتين الأخيرتين من الصلاة كيف يصنع بالقراءة؟ فقال : «إقرأ فيهما فإنّهما لك الأوّلتان ، ولا تجعل أوّل صلاتك آخرها»(1) .
ومنها :
رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «إذا أدرك الرجل بعض الصلاة وفاته بعض خلف الإمام يحتسب بالصلاة خلفه جعل أوّل ماأدرك أوّل صلاته ، إن أدرك من الظهر أو من العصر أو من العشاء ركعتين وفاتته ركعتان قرأ في كلّ ركعة ممّا أدرك خلف الإمام في نفسه بأمّ الكتاب وسورة ، فإن لم يدرك السورة تامّة أجزأته اُمّ الكتاب ، فإذا سلّم الإمام قام فصلّى ركعتين لا يقرأ فيهما ، لأنّ الصلاة إنّما يقرأ فيها في الأوّلتين في كلّ ركعة باُمّ الكتاب وسورة ، وفي الأخيرتين لا يقرأ فيهما ، إنّما هو تسبيح وتكبير وتهليل ودعاء ليس فيهما قراءة ، وإن أدرك ركعة قرأ فيها خلف الإمام ، فإذا سلّم الإمام قام فقرأ بأُمّ الكتاب وسورة ثم قعد فنشهّد ، ثمّ قام فصلّى ركعتين ليس فيهما قراءة»(2) ، إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّه يجب أن يجعل ما أدرك أوّل صلاته .
وعليه فيجب على المأموم قراءة الفاتحة والسورة فيما يدركه مع الإمام ، حيث إنّ ما أدركه يكون أوّل صلاته ويجب في الأوّلتين الفاتحة والسورة معاً ، خلافاً لصاحب المدارك حيث إنّه بعد إيراد صحيحتي زرارة وعبدالرحمن بن الحجّاج المتقدّمتين قال ما لفظه :
ومقتضى الروايتين أنّ المأموم يقرأ خلف الإمام إذا أدركه في الركعتين
- (1) الكافي 3 : 381 ح1; التهذيب 3 : 46 ح159; الاستبصار 1 : 437 ح 1684; الوسائل 8 : 387 .أبواب صلاة الجماعة ب47 ح2 .
- (2) التهذيب 3 : 45 ح158; الاستبصار1 : 436 ح1683; الفقيه1 : 256 ح 1162; الوسائل 8 : 388 . أبواب صلاة الجماعة ب47 ح4 .
(الصفحة 365)
الأخيرتين ، وكلام أكثر الأصحاب خال من التعرّض لذلك ، وقال العلاّمة(رحمه الله) في المنتهى : الأقرب عندي القراءة مستحبّة . ونقل عن بعض فقهائنا الوجوب لئلاّ تخلو الصلاة عن قراءة ، إذ هو مخيّر في التسبيح في الأخيرتين وليس بشيء ، فان احتجّ بحديث زرارة وعبدالرحمن حملنا الأمر فيهما على الندب ، لما ثبت من عدم وجوب القراءة على المأموم(1) .
هذا كلامه(رحمه الله) ولا يخلو من نظر ، لأنّ ما تضمّن سقوط القراءة باطلاقه لا ينافي هذين الخبرين المفصّلين ، لوجوب حمل الاطلاق عليهما ، وإن كان ما ذكره من الحمل لا يخلو من قرب ، لأنّ النهي في الرواية الاُولى عن القراءة في الأخيرتين للكراهة قطعاً ، وكذا الأمر بالتجافي وعدم التمكّن من القعود في الرواية الثانية محمول على الاستحباب ، ومع اشتمال الرواية على استعمال الأمر في الندب أو النهي في الكراهة يضعف الاستدلال بما وقع فيهما من الأوامر على الوجوب أو المناهي على التحريم ، مع أنّ مقتضى الرواية الاُولى كون القراءة في النفس ، وهو لايدلّ صريحاً على وجوب التلفظ بها . وكيف كان ، فالروايتان قاصرتان عن إثبات الوجوب(2) . انتهى كلام صاحب المدارك .
قال في المصباح بعد نقل هذا الكلام : وقد أكثر في الجواهر من ذكر المؤيّدات لهذا القول ، ثمّ اعترف في ذيل كلامه بأنّ شيئاً منها ليس بشي يلتفت إليه في مقابل ما سمعت ، كما أنه لا ينبغي الالتفات إلى ما ذكره في المدارك وجهاً للخدشة في دلالة الصحيحتين على الوجوب ، بعد وضوح عدم كون إرادة الكراهة من النهي عن القراءة في الاخيرتين بعد تسليمها .
والغضّ عمّا ذكرناه في محلّه في توجيه النهي ، موهن لإرادة الوجوب من الامر
- (1) المنتهى 1 : 384 .
- (2) مدارك الاحكام 4 : 383 .
(الصفحة 366)
الواردة في الفقرة السابقة عليه أو اللاحقة به ، وكذا عدم صلاحيّة إرادة الاستحباب من الأمر بالتجافي في صحيحة ابن الحجّاج ، قرينة لإرادة الاستحباب من الأمر الآخر الوارد في الجواب عن مسألة اُخرى ، لا ربط لها بالاُولى كما هو واضح(1) . إنتهى كلامه .
وبملاحظته ينقدح أنه لا مجال للإشكال في وجوب قراءة الفاتحة والسورة ، كما قد حكي عن جماعة من أعيان القدماء كالشيخ في التهذيبين والنهاية والسيّد والحلبي والصدوق والكليني(2) وكثير من المتأخّرين(3) .
ثمّ إن أمهله الإمام أن يقرأهما فلا إشكال في الوجوب ، وإن أمهله أن يقرأ الفاتحة فقط فمقتضى صيحة زرارة المتقدّمة سقوط وجوب السورة ، وإن لم يمهله أن يتمّ الفاتحة أيضاً بحيث كان إتمامها موجباً للخوف من عدم إدراك الإمام في الركوع واللحوق به فيه .
فهل الحكم بطلان القدوة وصيرورة الصلاة فرادى ، أو أنّ الجماعة باقية بعد ، ويجب عليه إتمام الفاتحة واللحوق بالإمام فيما يمكنه أن يدركه معه ولو في حال السجود أو بعده ، أو أنه يجب عليه متابعة الإمام في الركوع ويسقط ما لم يمهله الإمام من الفاتحة؟
وعلى الأخير فهل يجوز له أن يتابع الإمام في الركوع فوراً ، أو أنّه يجب عليه إدامة القراءة إلى حدّ يمكنه إدراك الإمام في بقاء الركوع ، فلو كان ركوعه طويلا لا يجوز للمأموم أن يرفع اليد عن القراءة بمجرّد إحداث الإمام الركوع؟ وجوه
- (1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 697 .
- (2) التهذيب3 : 46; الاستبصار 1 : 437; النهاية : 115; جمل العلم والعمل (رسائل المرتضى) 3 : 41; الكافي في الفقه : 145; الفقيه 1 : 263; الكافي3 : 381 .
- (3) منهم : صاحب الحدائق 11 : 247 والبهباني في شرح المفاتيح 7 : 219 ـ 221; رياض المسائل 4 : 367 .
(الصفحة 367)
واحتمالات :
أمّا الوجه الأوّل فيبتني على أنّ الصلاة تحتاج إلى فاتحة الكتاب بمقتضى قول : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» ، غاية الأمر أنّ قراءة الإمام في الأوّلتين تسقطها عن المأموم ، لأنـّه ضامن له ، وأمّا فيما لو اقتدى بالإمام في الثالثة أو الرابعة فلا دليل على سقوط القراءة ، وحيث إنّه لا يمكن الإتيان بها ثمّ إدرك الإمام في الركوع ـ والمفروض أنه تجب المتابعة في الأفعال ـ فلا محيص عن الذهاب إلى بطلان الجماعة ، وصيرورة الصلاة فرادى فيما لو لم يعلم ذلك من أوّل الشروع ، وإلاّ فلم تصر صلاته جماعة حتى تصير فرادى كما لا يخفى .
ويردّ هذا الوجه الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ إدراك الركعة يتحقّق بإدراك الركوع ، فضلا عن إدراك تكبيرة الركوع أيضاً ، فإنه إذا كان الاقتداء بالإمام في الركوع وإدراكه معه موجباً لتحقّق الجماعة في تلك الركعة ، فإدراكه في حال القيام يوجب ذلك بطريق أولى .
ومن هذا يظهر بطلان الوجه الثاني ، فإنّه إذا كانت القراءة بأسرها ساقطة عن المأموم فيما لو أدرك الإمام في الركوع ، فسقوط بعضها عنه فيما لو أدركه في حال القيام بطريق أولى .
وحينئذ فلا مجال لملاحظة حال دليل وجوب المتابعة مع دليل وجوب الفاتحة في الصلاة وعدم تماميّتها بدونها ، فإنّه يكون حال المسألة بعينها حال مالو أدرك الإمام في تكبيرة الركوع في الركعة الثالثة أو الرابعة .
ودعوى الفرق بين المسألتين بأنّه هناك لا يتمكّن من قراءة شيء من الفاتحة ، فلا يتوجّه إليه الأمر المتعلّق بها أصلا ، وهذا بخلاف المقام فإنّه قد توجّه إليه الأمر بالفاتحة بعد الاقتداء كما هو المفروض ، لأنّ الكلام إنما هو على تقدير وجوب قراءتها في الأخيرتين اللتين هما أوّلتان للمأموم ، فالمزاحم لدليل وجوب الفاتحة