(الصفحة 53)
وأمّا موضعه عندهم فذهب الشافعي إلى أنّ سجود السهو موضعه أبداً قبل السلام ، وذهب أبو حنيفة إلى أنّ موضعه أبداً بعد السلام ، وفصّل مالك فقال : إن كان السجود لنقصان كان قبل السلام ، وإن كان لزيادة كان بعد السلام . وقال أحمد: يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله) قبل السلام ، ويسجد بعد السلام في المواضع التي سجد فيها بعده(1) .
وأمّا صفة سجود السهو فقد اختلفوا فيها ، فرأى مالك أنّ حكمها إذا كانت بعد السلام أن يتشهّد فيها ويسلّم منها ، وبه قال أبو حنيفة ، لأنّ سجدتي السهو عنده بعد السلام ، وإذا كانت قبل السلام أن يتشهّد لها فقط ، وأنّ السلام من الصلاة هو سلام منها ، وبه قال الشافعي ، إذ كان السجود كلّه عنده قبل السلام .
وحكي عن مالك أنه لا يتشهّد للتي قبل السلام ، وبه قال جماعة ، وقال أبو بكر ابن المنذر : اختلف العلماء في هذه المسألة على ستّة أقوال ، فقالت طائفة : لا تشهّد فيها ولاتسليم ، وبه قال أنس بن مالك والحسن وعطاء ، وقال قوم مقابل هذا وهو: أنّ فيها تشهّداً وتسليماً ، وقال قوم: فيها تشهّد فقط دون تسليم ، وبه قال الحكم وحمّاد والنخعي ، وقال قوم مقابل هذا وهو: إنّ فيها تسليماً وليس فيها تشهّد ، وهو قول ابن سيرين .
والقول الخامس : إن شاء تشهّد وسلّم وإن شاء لم يفعل ، روي ذلك عن عطا; والسادس : قول أحمد بن حنبل : إنّه إن سجد بعد السلام تشهّد وإن سجد قبل السلام لم يتشهّد . وهو الذي حكيناه نحن عن مالك ، قال أبو بكر : قد ثبت إنّه(صلى الله عليه وآله)كبّر فيها أربع تكبيرات وأنه سلّم ، وفي ثبوت تشهّده فيها نظر(2) ، انتهى . هذا كلّه
- (1) المجموع 4: 154 ـ 155; بداية المجتهد 1: 265; المغني لابن قدامة 1: 709; الشرح الكبير 1: 733 ـ 734; تذكرة الفقهاء 3: 355 مسألة 363 .
- (2) بداية المجتهد 1: 271 .
(الصفحة 54)
ما يتعلّق بسجود السهو في نظر العامّة .
وأمّا نحن معاشر الإمامية فلا إشكال عندنا في عدم وجوبه فى موارد الشكّ في عدد الركعات إلاّ في الشكّ بين الأربع والخمس على ماعرفت(1) . نعم أوجبه والد الصدوق في الشكّ بين الاثنتين والثلاث في بعض فروضه ولكنّه نادر(2) .
وأمّا في الأفعال ، فما يوجب منهاالسجدتين أمور :
أحدها :
ترك التشهّد نسياناً ، فإنه يجب قضاؤه بعد السلام والإتيان بسجدتي السهو نصّاً وفتوى على ماتقدّم في باب التشهّد(3) .
ثانيها :
نسيان سجدة واحدة إلى أن يركع في اللاحقة ، فإنّه يجب قضاؤها نصّاً وفتوى ، والإتيان بسجدتي السهو على ماهو المشهور من حيث الفتوى(4) ، وإن كان النصّ خالياً من ذلك إلاّ أنه يستكشف وجوده من فتوى المشهور .
ثالثها :
التكلّم سهواً ، فإنّه أيضاً يوجب سجود السهو بمقتضى الروايات الواردة فيه ، مضافاً إلى الشهرة بل الاجماع ، على ما ادّعي .
رابعها :
السلام في غير المحلّ كما هو المشهور(5) ولعلّه لكونه من كلام الآدميّين على ما عرفت تحقيقه في باب التسليم ، فوقوعه في غير محلّه إنّما هو كالتكلّم سهواً بل هو عينه .
- (1) راجع2 : 496 ـ 497 .
- (2) نقله عنه في مختلف الشيعة 2: 383 .
- (3) راجع مختلف الشيعة 2: 407; مدارك الأحكام 4: 242; جواهر الكلام 12: 303 .
- (4) المقنعة: 138; جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 36 ـ 37; المراسم: 89; الكافي في الفقه: 119; السرائر 1: 257; مختلف الشيعة 2: 367; مدارك الأحكام 4: 240; جواهر الكلام 12: 300 .
- (5) المقنعة: 147 ـ 148; المبسوط 1: 123; الجمل والعقود: 80 ; جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 37; الفقيه 1: 341 و353; مختلف الشيعة 2: 423 .
(الصفحة 55)
خامسها :
القعود في موضع القيام أو العكس ، واختار ايجابهما للسجود جماعة كالصدوق وعلم الهدى وأبي يعلى وأبي الصلاح والقاضي وابن حمزة وأبي المكارم وابن إدريس والعلاّمة وكثير ممّن تأخر(1) ، وخالف فيه الشيخان وعلي بن بابويه وجمع من متأخّري المتأخّرين(2) ، ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار التي يستفاد منها حكم هذه المسألة .
وما يدلّ منها على مذهب المثبتين خبران :
أحدهما :
خبر معاوية بن عمّار قال : سأله عن الرجل يسهو فيقوم في حال قعود أو يقعد في حال قيام؟ قال : «يسجد سجدتين بعد التسليم ، وهما المرغمتان ترغمان الشيطان»(3) .
ثانيهما :
موثّقة عمّار بن موسى قال : سألت أبا عبدالله(صلى الله عليه وآله) عن السهو ما تجب فيه سجدتا السهو؟ قال : «إذا أردت أن تقعد فقمت ، أو أردت أن تقوم فقعدت ، أو أردت أن تقرأ فسبّحت ، أو أردت أنّ تسبّح فقرأت ، فعليك سجدتا السهو ، وليس في شيء ممّا تتمّ به الصلاة سهو» . وعن الرجل إذا أراد أن يقعد فقام ثمّ ذكر من قبل ان يقدّم شيئاً أو يحدث شيئاً؟ فقال : «ليس عليه سجدتا السهو حتّى يتكلّم بشيء . . .»(4) .
وقال الباقون : هذان الخبران معارضان بالأخبار الكثيرة المتضافرة الدالّة
- (1) امالي الصدوق: 513; جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 37; المراسم: 90; الكافي في الفقه: 148; المهذّب 1: 156; الوسيلة: 102 ، الغنية: 113; السرائر 1: 257; مختلف الشيعة 2: 426; الروضة البهيّة 1: 327; روض الجنان: 353; الحدائق 9: 323; مدارك الأحكام 4: 279; مستند الشيعة 7: 235 .
- 2) المقنعة: 147 ـ 148; المبسوط 1: 123; الخلاف 1: 459; المعتبر 2: 399; وحكاه عن ابن بابويه في مختلف الشيعة 2: 426; الجامع للشرائع: 86 .
- (3) الكافي 3: 357 ح9; الوسائل 8: 25 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب32 ح1 .
- (4) التهذيب 2: 353; 1466; الوسائل 8: 250 . أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب32 ح2 .
(الصفحة 56)
على أنّ من ترك سجدة أو تشهّداً وقام فذكر قبل أن يركع ، يرجع ويتدارك المنسيّ(1) ، ولا يكون فيها إشارة إلى لزوم سجود السهو من أجل القيام في موضع القعود ، فيستفاد من ذلك عدم كونه موجباً لسجود السهو أصلا .
وحكى في المفتاح عن استاذه أنّه أجاب عن هذا الاستدلال: بأنّ المراد من موضوع البحث ما إذا وقع السهو في خصوص القيام موضع القعود وكذا العكس ، لا أنه سهى فترك السجود أو التشهّد فقام عمداً ، أو أنّه سهى فاعتقد أنّها الركعة الثانية ، فقعد عمداً للتشهّد فتذكّر أنّها الاُولى أو الثالثة ، وذلك بخلاف ما إذا غفل وسهى فقام في الركعة الثانية في موضع قعود التشهّد ، أو قعد كذلك بعد الركعة الأولى أو الثالثة(2) .
ويرد عليه: أنّ القيام موضع القعود لا يتّفق غالباً إلاّ مع السهو عن التشهّد ، وكون الركعة السابقة ركعة ثانية ، وكذا القعود موضع القيام يتحقّق غالباً مع السهو عن كون الركعة التي بيده هي الركعة الاُولى أو الثالثة ، وأمّا كون السهو سبباً لنفس القيام موضع القعود أو العكس ، فهو فرض لا يكاد يتّفق إلاّ نادراً كما لا يخفى .
وكيف كان ، فالخبران المتقدّمان يدلاّن على ثبوت سجدتي السهو في القيام موضع القعود وكذا العكس ، ونحن نقول : إنّ القعود في الصلاة في ثلاثة مواضع ، أوّلها وثانيها القعود في حال التشهّد الأول والأخير ، والثالث القعود بين السجدتين ، وأمّا جلسة الاستراحة فقد عرفت ثبوت الخلاف فيها ، وأنّ الأقوى عدم الوجوب .
أمّا القعود في حال التشهّد ، فالظاهر عدم كونه واجباً مستقلاًّ في مقابل التشهّد ، عند أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم ، خلافاً للعامّة حيث ذهب كثير
- (1) الوسائل 6: 364 و 365 . أبواب السجود ب14 ح1 ، 4 وص406 . أبواب التشهّد ب9 ح4 .
- (2) مفتاح الكرامة 3: 319 .
(الصفحة 57)
منهم إلى وجوبه بنفسه ، بل ذهب جمع من هذه الطائفة إلى عدم وجوب التشهّد أصلا وكونه سنّة محضة(1) .
وبالجملة:
فالظاهر عندنا أنّ القعود واجب في حال التشهّد لا لنفسه بل لأجله .
وحينئذ فالسهو عن القعود في حاله لا ينفكّ إمّا عن الاعتقاد بالإتيان بالتشهّد ، وإمّا عن الاعتقاد بكون الركعة التي فرغ منها من أوتار ركعات الصلاة ، ولا يكاد يمكن أن يتحقّق السهو عنه دون التشهّد ، فالسهو عنه عبارة اُخرى عن السهو عن التشهّد ، وعليه فيعارض الخبرين من هذه الجهة الروايات الكثيرة الواردة في نسيان التشهّد ، الدالّة على أنّه لو تذكّر قبل أن يركع في الثالثة يجب عليه الرجوع لتداركه ، وظاهرها بقرينة الحكم بوجوب السجدتين في الشقّ الآخر من شقّي مسألة نسيان التشهّد ، وهو ما لو تذكّر بعد الركوع من الركعة الثالثة عدم وجوبهما في هذا الشقّ كما لايخفى .
وأمّا القعود بين السجدتين فهو وإن كان واجباً خلافاً لبعض العامّة كأبي حنيفة ومن يحذو حذوه(2) ، إلاّ أنّ الظاهر أنه لا يكاد ينفكّ السهو عنه عن السهو عن السجدة الأخيرة ، وحينئذ تقع المعارضة بين الخبرين وبين الروايات الكثيرة الواردة في نسيان سجدة واحدة ، الدالّة على وجوب العود للتدارك مع التذكّر قبل أن يركع في الركعة اللاحقة .
وهذه الروايات غير متعرّضة لسجدتي السهو أصلا ، بل ظاهرها عدم
- (1) المجموع 3: 449 ـ 450; 462; المغني 1: 606 ـ 613; الشرح الكبير 1: 634; الخلاف 1: 364 و367 مسألة 121 و 126; تذكرة الفقهاء 3: 227 ـ 228 .
- (2) المغني لابن قدامة 1: 598; المجموع 3: 440; الخلاف 1: 360 مسألة 117; تذكرة الفقهاء 3: 190 مسألة 261 .