(صفحه104)
وثانياً: أنّه على فرض جريان التضادّ والتماثل فيها أيضاً لا يتحقّق المحذورالمذكور في المقام، فإنّ جعل الحجّيّة لا يكون بمعنى جعل الحكم، بل يكونبمعنى منجّزيّة الحكم في صورة الإصابة، ومعذّريّة المكلّف في المخالفة في صورةالخطأ كما ذكرناه مراراً.
المحذور الثاني: ما يرتبط بلازم الخطاب، وكلام ابن قبة ناظرٌ إليه، وهوأنّ التعبّد بالمظنّة مستلزم للإلقاء في المفسدة فيما إذا أدّت الأمارة إلى إباحةشيء ـ مثلاً ـ وكان حراماً في الواقع، أو لتفويت المصلحة فيما إذا أدّت إلىإباحته وكان واجباً بحسب الواقع.
ولايخفى أنّ تماميّة هذا الدليل يتوقّف على تحقّق أمرين:
الأوّل: أن تكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد كما قال به المعتزلة، فعلىالقول بعدم التبعيّة ـ كما هو المنسوب إلى الأشاعرة ـ لا تتحقّق هنا مصلحة أومفسدة حتّى يلزم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة.
الأمر الثاني: أن يكون المجعول في باب الأمارات محض الطريقيّة كما هوالحال في باب القطع، ولازم ذلك تفويت المصلحة الواقعيّة وعدم جبرانها فيصورة مخالفة الأمارة للواقع أحياناً.
أمّا على القول بإنكار أصل وجود المصلحة والمفسدة أو تغيير الواقع بقيامالأمارة وصيرورته على طبق الأمارة فلا يستلزم التعبّد بالمظنّة تفويتالمصلحة والإلقاء في المفسدة، كما إذا قلنا بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، إلأنّ السلوك على طبق الأمارة يوجب حدوث المصلحة ويتدارك بها مصلحةالواقع، فلا يلزم محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، فهذا الدليلمتوقّف على تماميّة الأمرين المذكورين، ولاشكّ في تماميّتهما عندنا.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدسسره (1) أضاف أمراً ثالثاً، وهو: أنّ المحذور إنّما يتمّ في
(صفحه 105)
صورة انفتاح باب العلم خاصّة، وأمّا في صورة انسداده فلا؛ لأنّ المكلّفلايتمكّن من اسيتفاء المصالح في حال انسداد باب العلم إلاّ بالاحتياط التام،وليس مبنى الشريعة على الاحتياط في جميع الأحكام، فالمقدار الذي تصيبالأمارة للواقع يكون خيراً جاء من قبل التعبّد بالأمارة، وإن كان موردالإصابة أقلّ القليل، فإنّ ذلك القليل أيضاً كان يفوت لولا التعبّد، فلا يلزم منالتعبّد إلاّ الخير.
ويرد عليه: أنّه لا دليل لأن يكون مبنى الشريعة على عدم الاحتياط بعدحكم العقل بلزوم الاحتياط في مورد العلم الإجمالي ورعاية كلّ محتملالوجوب والحرمة، ولعلّ الشرع أيضاً يؤيّد ذلك.
والجواب عن المحذور الثاني تارةً يكون بلحاظ حال انفتاح باب العلموزمان حضور الأئمّة عليهمالسلام ، واُخرى بلحاظ حال الانسداد.
أمّا بلحاظ حال الانفتاح فلاشكّ في أنّ السؤال من الأئمّة عليهمالسلام وإن كان أمرممكناً حسب الفرض إلاّ أنّ إلزام جميع الناس بالعمل بالعلم وسؤالهم صلىاللهعليهوآله مباشرة لا يمكن عادةً مع تفرّق الشيعة في أطراف العالم والبلاد البعيدة وتسلّطالطواغيت وحكّام الجور، وهذا الأمر لا يمكن في زماننا هذا أيضاً مع كثرةوسائل الارتباط والإمكانات، فضلاً عن زمان الأئمّة عليهمالسلام ، ولذا قالالصادق عليهالسلام : «عليك بهذا الجالس»، مشيراً إلى زرارة، في جواب من قال:عمّن آخذ معالم ديني(1)؟ ففي حال الانفتاح لابدّ من العمل بالخبر الواحدواعتباره.
وأمّا بلحاظ حال الانسداد فيدور الأمر بين الأمرين؛ ولابدّ من الأخذ
- (1) الوسائل 27: 143، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 19.
(صفحه106)
بأحدهما:
الأوّل: الاحتياط التامّ الجاري في جميع الأحكام بمقتضى حكم العقلبلحاظ العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الفعليّة في الشريعة، وهذا الطريق فينفسه طريق جيّد لا يستلزم الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة، ولكنّهمستلزم لتنفّر الناس وانزجارهم من الدِّين؛ إذ الاحتياط يوجب اشتغال أكثرالأوقات بإتيان التكاليف المحتملة، وهذا ينتهي إلى خروج كثير من الناس منالدِّين.
الثاني: العمل طبق الأمارات والطرق غير العلميّة التي تكون مطابقة للواقعغالباً، وإن كانت في بعض الموارد مخالفة له، ولاشكّ في ترجيح الإلقاء فيالمفسدة وتفويت المصلحة في الموارد النادرة على الخروج من الدِّين رأساً،ولعلّ العقل أيضاً لا يحكم بالاحتياط في مثل هذا المورد، فيكون محذورالاحتياط أقوى من محذور التعبّد بالمظنّة، واختيار التعبّد بالمظنّة في حالالانسداد طريق صحيح ولابدّ منه.
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (1) التزم بقبح التعبّد بالأمارات الظنّيّةحال الانفتاح، وأمّا في حال الانسداد فزعم بأنّ تفويت المصلحة متداركبالمصلحة السلوكيّة.
وقد عرفت أنّ التعبّد بالمظنّة حال الانفتاح طريق متعيّن وأمرٌ عقلائيٌّ، معأنّ أدلّ دليل على عدم قبح شيء وقوعه في الشريعة، ومن هنا نرى في كلماتالأئمّة عليهمالسلام إرجاع الناس إلى الرواة.
ولكن قال المحقّق النائيني قدسسره (2) في توضيح كلام الشيخ قدسسره بأنّ سببيّة الأمارة
- (2) فوائد الاُصول 3: 94 ـ 96.
(صفحه 107)
لحدوث المصلحة تتصوّر على وجوه ثلاثة:
الأوّل: أن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في المؤدّى تستتبع الحكمعلى طبقها بحيث لا يكون وراء المؤدّى حكم في حقّ من قامت عنده الأمارة،فتكون الأحكام الواقعيّة مختصّة في حقّ العالم بها، ولا يكون في حقّ الجاهلبها سوى مؤدّيّات الطرق والأمارات، فتكون الأحكام الواقعيّة تابعة لآراءالمجتهدين، وهذا هو «التصويب الأشعري» الذي قامت الضرورة على خلافه،وقد ادّعي تواتر الأخبار على أنّ الأحكام الواقعيّة يشترك فيها العالموالجاهل، أصابها من أصاب وأخطأها مَن أخطأ.
الوجه الثاني: أن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في المؤدّى أيضأقوى من مصلحة الواقع، بحيث يكون الحكم الفعلي في حقّ من قامت عندهالأمارة هو المؤدّى، وإن كان في الواقع أحكام يشترك فيها العالم والجاهل علىطبق المصالح والمفاسد النفس الأمريّة، إلاّ أنّ قيام الأمارة على الخلاف تكونمن قبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانويّة اللاّحقة للموضوعاتالأوّليّة المغيّرة لجهة حُسنها وقبحها نظير الضرر والحرج، ولابدّ وأن تكونالمصلحة الطارئة بسبب قيام الأمارة أقوى من مصلحة الواقع؛ إذ لو كانتمساوية لها كان الحكم هو التخيير بين المؤدّى وبين الواقع، مع أنّ المفروضأنّ الحكم الفعلي ليس إلاّ المؤدّى، وهذا الوجه هو «التصويب المعتزلي» ويتلوالوجه السابق في الفساد والبطلان، فإنّ الإجماع انعقد على أنّ الأمارة لا تغيّرالواقع، ولا تمسّ كرامته بوجه من الوجوه.
الوجه الثالث: أن يكون قيام الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في السلوكمع بقاء الواقع والمؤدّى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة
(صفحه108)
من دون أن يحدث في المؤدّى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كانعليه قبل قيام الأمارة، بل المصلحة إنّما تكون في تطرّق الطريقوسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّاها والبناء على أنّه هو الواقعبترتيب الآثار المترتّبة على الواقع على المؤدّى، وبهذه المصلحة السلوكيّةيتدارك ما فات على المكلّف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة علىخلافه، هذا تمام كلامه قدسسره .
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ حجّيّة الأمارات المعتبرة الشرعيّة لا تكون تأسيسيّة،بل تكون بمعنى إمضاء الشرع بعض ما يعتبر عند العقلاء ومتداول بينهمبعنوان الأمارة، فأساس حجّيّة الأمارة أمرٌ عقلائي، وبعد مراجعة العقلاءيستفاد أنّ ملاك اعتبار خبر الثقة ـ مثلاً ـ عندهم لا تكون المصلحة السلوكيّة،وأنّ المصلحة الفائتة تكون منجبرة بها في صورة مخالفة الواقع، بل الملاك أنّهطريق موصل إلى الواقع غالباً في زمان انسداد باب العلم، فقيام الأمارة ليوجب حدوث مصلحة في البين.
وثانياً: أنّ في مورد قيام الأمارة لا يتحقّق أزيد من أمرين: أحدهما: إخبارالثقة بأنّ صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ واجبة، وثانيهما: إتيان المكلّف بصلاة الجمعة فيمقام العمل، فليس هنا أمر ثالث حتّى تقوم المصلحة به.
ولكنّه مدفوع بأنّه يتحقّق هنا شيء ثالث، وهو استناد العمل إلى قيامالأمارة وتقوم المصلحة به، فتكون المصلحة الفائتة منجبرة بصلاة الجمعة التييؤتى بها مستنداً إلى قيام الأمارة، مثل: إتيان المقلّد بصلاة الجمعة مستنداً إلىفتوى المجتهد بوجوبها.
وثالثاً: أنّ لازم تدارك المصلحة الفائتة بالمصلحة السلوكيّة هو الإجزاء فيمإذا انكشف الخلاف، مع أنّ التحقيق في باب الأمارات وهكذا في باب القطع