(صفحه 109)
عدم الإجزاء كما قال به المحقّقون، بخلاف الاُصول العمليّة فإنّ الحقّ فيهالإجزاء بعد انكشاف الخلاف كما عليه بعض المحقّقين، فلا معنى لعدم الإجزاءبعد القول بالمصلحة السلوكيّة، وهذا دليل على عدم تحقّق المصلحة السلوكيّةأصلاً.
ولكنّه مدفوع أيضاً بأنّه من التزم بالمصلحة السلوكيّة يلتزم بلازمها أيضاً،فيمكن أن يقول الشيخ الأعظم قدسسره هنا بالإجزاء، وهذا ليس بتالي فاسدمسلّم، بل تكون مسألة مبنائيّة، فيبقى الإشكال الأوّل وحده بقوّته، ولذا لتكون المصلحة السلوكيّة جواباً عن ابن قبة.
المحذور الثالث: ما يرتبط برتبة متقدّمة على الحكم والخطاب، وهومحذور اجتماع الإرادة والكراهة أو الحبّ والبغض على مورد واحد، فإذا دلّتالأمارة على وجوب ما هو حرام في الواقع أو بالعكس لزم اجتماعهما علىمورد واحد، وهو محال.
وجوابه يتوقّف على بيان مقدّمة، وهي: توضيح مراتب الحكم الشرعيومعناها، والمستفاد من كلام المحقّق الخراساني قدسسره (1) في حاشية الرسائل: أنّللحكم مراتب أربع:
الاُولى: مرتبة الاقتضاء، والمراد بها شأنيّة الحكم الموجود بمعنى وجودملاكٍ يقتضي إنشاء الحكم له كمعراج المؤمن، فإنّه يقتضي إنشاء الشارعوجوب الصلاة لاستيفاء ذلك الملاك.
الثانية: مرتبة الإنشاء، أي جعل الحكم مجرّداً عن البعث والزجر.
الثالثة: مرتبة الفعليّة، أي بعث المولى وزجره؛ بأن يقول: «افعل» أو «لتفعل» مع عدم وصوله إلى المكلّف بحجّة معتبرة من علم أو علمي، فل
(صفحه110)
توجب مخالفته ذمّاً ولا عقاباً.
الرابعة: مرتبة التنجّز أي وصول الحكم البالغ مرتبة البعث أو الزجر إلىالعبد بالحجّة المعتبرة من علم أو علمي، فتكون مخالفته حينئذٍ موجبةلاستحقاق العقوبة.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ مرتبتي الاقتضاء والتنجّز ليستا من مراتب الحكم، أمّمرتبة الاقتضاء فإنّها راجعة إلى ملاكات الأحكام وليست من مراتبها، فإنّالملاكات اُمور تكوينيّة خارجيّة، فكيف تكون من مرتبة أمر اعتباري؟! فهذهالمرتبة ليست من مراتب الحكم بل تكون من مقدّماته.
وأمّا مرتبة التنجّز فإنّها من أحكام العقل بعد تماميّة الحكم الشرعي وميترتّب على مخالفة الحكم، فما كان متأخّراً عن الحكم ومرتّباً على مخالفته لمجال لأن يجعل من مراتب الحكم.
وثانياً: أنّ الفرق بين الحكم الإنشائي والفعلي بتحقّق البعث أو الزجر فيالثاني دون الأوّل ليس بصحيح، فإنّ عدم تحقّق البعث أو الزجر في مرتبةالإنشاء دليل على عدم تحقّق الحكم هنا أصلاً بعدما كان الوجوب والحرمةبمعنى البعث والزجر الاعتباري، فكيف يكون ما لم يتحقّق فيه البعث أو الزجرمن مراتب الحكم؟!
التفسير الثاني للحكم الإنشائي والفعلي ما ذكره اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1)وهو أنّ الشارع في مقام التقنين لم يتّخذ طريقاً خاصّاً بل كيفيّة تقنينه هيالكيفيّة المتداولة بين العقلاء، من جعل القانون ابتداء بصورة كلّيّة؛ بمعنى تعلّقالإرادة الاستعماليّة على العنوان الكلّي، ثمّ بيان مخصّصاته ومقيّداته بعنوانالاستثناء والتقييد في مقام الإجراء ومحدوديّة المراد الجدّي حسب ما تقتضيه
(صفحه 111)
المصالح.
والحكم الإنشائي ما هو مجعول بعنوان ضابطة كلّيّة نحو قوله تعالى: «أَحَلَّاللَّهُ الْبَيْعَ»(1)، وبعد بيان مخصّصاته ومقيّداته، مثل قوله عليهالسلام : «لا تبع ما ليسعندك»(2)، و«نهى النبيّ عن بيع الغرر»(3) يصير الحكم فعليّاً، فالحكم الفعلي متعلّقت به الإرادة الجدّيّة في مقام إتيان العمل وتحقّقه في الخارج، ومن فوائدجعل الحكم الإنشائي التمسّك بإطلاقه في موارد الشكّ، كالشكّ في حلّية بيعالمعاطاة ـ مثلاً ـ فالصحيح أنّه ليس للحكم الشرعي سوى هذين المرتبتين،وهذا هو الحقّ ومطابق للواقعيّة.
التفسير الثالث: ما ذكره بعض الأعلام قدسسره (4) من أنّه ليس للحكم إلمرتبتان:
الاُولى: مرتبة الجعل والإنشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضيّةالحقيقيّة، كقوله سبحانه: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِسَبِيلاً»(5)، ففي هذه الرتبة تنشأ الأحكام على موضوعاتها المقدّر وجودهبجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط وعدم الموانع على نهج القضايالحقيقيّة.
الثانية: مرتبة الفعليّة والخروج عن التعليق والتقدير بتحقّق موضوعهخارجاً، كما إذا صار المكلّف مستطيعاً مثلاً.
وفيه: أوّلاً: أنّه كلام بلا شاهد، ومن البعيد أن يكون الحكم الواحد بالنسبة
- (2) الوسائل 18: 47، الباب 7 من أبواب احكام العقود، الحديث 2.
- (3) الوسائل 17: 448، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.
(صفحه112)
إلى شخص إنشائيّاً، وبالنسبة إلى شخص آخر فعليّاً، مع مخالفته لما هو متداولبين العقلاء في كيفيّة التقنين كما ذكرناه، ولازم هذا الكلام عدم كون مثل «أَحَلَّاللَّهُ الْبَيْعَ» حكماً إنشائيّاً، ولا حكماً فعليّاً؛ إذ الحكم في باب المطلق يتعلّقبالطبيعة، ولا نظارة لها إلى الأفراد والمصاديق حتّى تكون محقّقة الوجود أومقدّرة الوجود، بل يستحيل حكايتها عن الأفراد كما مرّ ذكره مراراً.
وثانياً: أنّ لازم هذا الكلام إرجاع القوانين المجعولة في ضمن الجملالإنشائيّة، مثل: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» إلى الجمل الخبريّة لتصحيح القضيّةالحقيقيّة، كقولنا: «المكلّف يجب عليه إقامة الصلاة» بأنّ الحكم يكون بالنسبةإلى «زيد» قبل البلوغ إنشائيّاً، وبعد بلوغه يصير فعليّاً، وبناءً على هذا البيانلابدّ من الالتزام بهذا التوجيه في مثل: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، بخلاف ما ذكرناهمن التفسير للحكم الإنشائي والفعلي.
وثالثاً: أنّ لازم هذا الكلام تعلّق الإرادة الجدّية بجميع مصاديق البيع وإنكان غرريّاً، فكلّ معاملة إذا تحقّقت واتّصفت بعنوان البيعيّة يكون حلالاً نافذعند اللّه، فإنّ بعد تحقّق موضوع قضيّة حقيقيّة تتعلّق به الإرادة الجدّية، وهذينافي التقييد والتخصيص، ولايكون قوله عليهالسلام : «نهى النبيّ عن بيع الغرر» قابلللجمع مع «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»، بخلاف ما ذكرناه بلحاظ تعلّق الإرادةالاستعماليّة والحكم الإنشائي بحلّية جميع أفراد البيع ومصاديقه، وهذا لا يتنافىمع دخالة بعض القيود في متعلّق الإرادة الجدّية.
نعم، أصالة التطابق حاكم بتطابق الإرادتين إن لم يكن الدليل على الخلافكما في بيع المعاطاة، فما يكون متعلّق الإرادة الاستعماليّة هو حكم إنشائي، وميكون متعلّق الإرادة الجدّية هو حكم فعلي.
إذا عرفت هذه المقدّمة بالنسبة إلى المحذور الثالث ـ أي اجتماع الإرادة
(صفحه 113)
والكراهة أو الحبّ والبغض في شيء واحد إذا أدّت الأمارة إلى حرمة مّا هوواجب في الواقع أو وجوب ما هو حرام في الواقع ـ فنقول: والجواب عنه مهو التحقيق في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، وقد مرّ في مسألةالمتزاحمين أنّه لامحيص إلاّ عن رفع اليد عن الأمر بالمهمّ في مقام الفعليّة، للعدم ملاك الوجوب فيه، بل لعدم قدرة المكلّف على امتثالهما معاً ورعاية الأمربالأهمّ، فلا يترتّب على مخالفة الأمر بالمهمّ عقوبة ولا مذمّة.
ومن هنا يستفاد فيما نحن فيه بأنّ صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ إذا كانت بحسبالواقع واجبة ولكنّه لم يصل إلى المكلّف لمانع، فلابدّ له إمّا من الاحتياط التامّالذي يؤدّي إلى العسر والحرج الشديدين، بل وخروج الناس عن ربقةالإسلام وانزجارهم عن الدِّين، وإمّا العمل على وفق الأمارات الذي يستلزمالمخالفة للواقع أحياناً ويوجب تفويت مصالح الأحكام الواقعيّة، ولكنّه أهونللشارع من تنفّر الناس وانزجارهم عن أساس الإسلام، فالضرورة تقتضيأن يجعل الشارع بعض الأمارات العقلائيّة حجّة، فالملاك الذي يقتضي رفعاليد عن الأمر بالمهمّ هو الذي يقتضي هنا رفع اليد عن الأحكام الواقعيّة.
آراء اُخرى لدفع المحذور:
وتتحقّق هنا آراء اُخرى للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي:
الأوّل: ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (1) من أنّ الحكمالظاهري قد اُخذ في موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي، فيكون الحكمالظاهري في طول الشكّ في الحكم الواقعي لا محالة، والشكّ في شيء أيضيكون في طول ذلك الشيء، فيكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكمالواقعي برتبتين، فلا تبقى منافاة بينهما.