(صفحه114)
وأشكل عليه صاحب الكفاية قدسسره (1) بأنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن فيمرتبة الحكم الواقعي لمكان الطوليّة، إلاّ أنّ إطلاق الحكم الواقعي لحالاتالجهل والعلم يشمل مرتبة الحكم الظاهري، فإنّ اختصاص الحكم الواقعيبالعالم به يلزم التصويب الباطل، وعليه فمحذور الجمع بين الحكم الواقعيوالظاهري باقٍ على حاله.
الرأي الثاني: ما ذكره المحقّق الخراساني قدسسره (2) من أنّ المجعول في باب الطرقوالأمارات هو الحجّية التي هي عبارة عن المنجّزية عند مطابقة الأمارة للواقعوالمعذّرية عند المخالفة، فالأمارة لا تستتبع حكماً شرعيّاً تكليفيّاً أصلاً، حتّىتحصل غائلة التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّه لا جعل ولا تأسيس للشارع في مورد الأمارات، بلالموجود هو إمضاء ما عليه بناء العقلاء.
ولكنّه قابل للتوجيه بأنّ الحجّية الإمضائيّة تكون بمعنى المنجّزية عندالإصابة والمعذّرية عند الخطأ لدى المحقّق الخراساني قدسسره .
وثانياً: أنّ كلامه قدسسره صحيح في صورة مطابقة الأمارة للواقع، وأمّا في صورةالمخالفة فلا ترتفع الغائلة بمجرّد إنكار الحكم الظاهري وتعويضه بجعل الحجّية،فإنّ منشأ ترك ما هو واجب بحسب الواقع هو تجويز الشارع بالحجّيةالإمضائيّة للأمارة الدالّة على عدم وجوبه، فيعود المحذور بأنّ الوجوبالواقعي وتعلّق الإرادة الجدّية بفعل شيء ـ مثلاً ـ كيف يكون قابلاً للجمع معتجويز الترك؟!
الرأي الثالث: ما ذكره المحقّق الفشاركي قدسسره على ما نقله تلميذه المحقّق
(صفحه 115)
الحائري قدسسره في كتاب درر الفوائد(1)، وحاصل كلامه قدسسره : أنّ موضوع الحكمالظاهري متفاوت مع موضوع الحكم الواقعي، ولا منافاة بينهما، مثلاً: إذتصوّر المولى موضوع الحكم الواقعي في مقام جعل الحكم، فيلاحظ نفسصلاة الجمعة مع الحالات التي يمكن أن تتّصف بها في نفسها مع قطع النظر عنتعلّق الحكم بها، مثل: كونها في المسجد أو الدار وأمثال ذلك.
وأمّا الحالات المتأخّرة عن تعلّق الحكم بها ـ مثل: عنوان كونها معلومةالحكم أو مشكوكة الحكم ـ فلا يمكن أن يتصوّر معها في هذه الرتبة؛ لعدمإمكان إدراج الأوصاف المتأخّرة عن الحكم في موضوعه.
والحاصل: أنّ موضوع الحكم الواقعي هو صلاة الجمعة مع الحالات التيلاترتبط بتعلّق الحكم بها، وموضوع الحكم الظاهري هو صلاة الجمعة التيتكون مقيّدة بعروض الشكّ في حكمها الواقعي ومتّصفة بكونها مشكوكةالحكم، وحينئذٍ لا مجال للسؤال عن كيفيّة الجمع بين الحكمين. هذا تمامكلامه قدسسره بتلخيص وإيجاز.
ويرد عليه: أوّلاً: ما ذكرناه في بحث التعبّدي والتوصّلي في مقام الجواب عنالمحقّق الخراساني قدسسره حيث قال: إنّه لا يمكن للمولى أخذ قصد القربة ـ بمعنىإتيان المأمور به بداعي الأمر المتعلّق به ـ في متعلّق الأمر بعنوان الجزئيّة أوالقيديّة، فإنّه يستلزم جعل ما هو متأخّر عن الأمر في رتبة متقدّمة على الأمر.
وقلنا في جوابه: إنّ المتأخّر عن الأمر هو داعويّته الخارجيّة، فداعويّةالأمر الخارجيّة تتوقّف على وجوده الخارجي، وما يتوقّف عليه الأمر هوتصوّر الموضوع بقيد كونه مأموراً به، ومعلوم أنّه لا يكون تصوّر الشيء فرعوجوده الخارجي، فلا مانع من تصوّر داعويّة الأمر وأخذها في الموضوع في
- (1) درر الفوائد 2: 351 ـ 354.
(صفحه116)
مقام تعلّق الأمر، وهذا الكلام يجري بعينه فيما نحن فيه، فإنّ العناوينوالأوصاف العارضة على الموضوع بلحاظ تعلّق الحكم عليه ـ مثل: عنوانمشكوك الحكم ـ متأخّرة عن الحكم بوجودها الخارجي، وأمّا في مقام تعلّقالأمر وتصوّر صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ فلا فرق بين الأوصاف التي تتّصف بها فينفسها والأوصاف التي تتّصف بها بعد تعلّق الحكم بها، ومقتضى إطلاق الحكمالواقعي هو شموله لصلاة الجمعة المشكوكة الحكم، مثل شموله لصلاة الجمعةالواقعة في المسجد، فيجتمع الحكمان في مورد واحد ويعود الإشكال.
وثانياً: أنّ ما أفاده قدسسره ـ من كون موضوع الحكم الظاهري هي صلاة الجمعةالمتّصفة بأنّها مشكوكة الحكم والمشكوكيّة تكون بعد تحقّق الحكم الواقعيومتأخّرة عنه ـ ليس بصحيح، فإنّ الشكّ في الشيء لا يستلزم تحقّق المشكوكفي الخارج، وإلاّ يلزم انقلاب الشكّ علماً؛ إذ كلّما شكّ في الحكم يعلم بثبوته؛لمكان الملازمة بين الشكّ في الشيء وتحقّق المشكوك خارجاً، وهكذا الأمربالنسبة إلى العلم، حيث إنّ العلم بالشيء لا يتوقّف على تحقّق المعلوم خارجاً،وإلاّ يلزم مطابقة العلم للواقع دائماً وانتفاء الجهل المركّب بالكلّية.
وثالثاً: أنّ ما ذكره قدسسره ـ من أنّ موضوع الحكم هو ذات الموضوع المجرّدعن الحكم، وموضوع الحكم الظاهري هو ذات الموضوع بلحاظ الحكم،فلا يمكن الجمع بين لحاظي التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته ـ أيضليس بصحيح، وذلك لأنّ ما اُخذ موضوعاً في الحكم الواقعي إمّأن يؤخذ بشرط لا، وإمّا أن يؤخذ لا بشرط ـ بعد ملاحظة أنّه لا معنىللإهمال والإجمال في مقام الثبوت وجعل الحكم وتعلّقه على الموضوع، بخلافمقام الإثبات ـ فعلى الأوّل يلزم اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به، وهذتصويب باطل؛ إذ لحاظ صلاة الجمعة بشرط أن لا تكون مشكوكة الحكم
(صفحه 117)
وجعل الوجوب لها بهذا اللحاظ مآله إلى وجوب صلاة الجمعة في حقّ العالمبالحكم خاصّة.
وعلى الثاني يمكن انقسام العنوان المتعلّق للأحكام الواقعيّة إلى معلومالحكم ومشكوك الحكم، فيكون العنوان محفوظاً في كلتا المرتبتين: مرتبةالحكم الواقعي ومرتبة الحكم الظاهري؛ لأنّ لا بشرط يجتمع مع ألف شرط،فليكن أحد هذه الشروط الشكّ في الحكم، ومع انحفاظ العنوان في كلتالمرتبتين يعود المحذور كما هو واضح.
الرأي الرابع: ما ذكره المحقّق النائيني قدسسره (1) من أنّ الموارد التي توهم وقوعالتضادّ بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة على أنحاء ثلاثة:
أحدها: موارد قيام الطرق والأمارات المعتبرة على الخلاف.
ثانيها: موارد مخالفة الاُصول المحرزة للواقع، والمراد منها ما يكون الموضوعفيها هو الشكّ المسبوق بحالة سابقة متيقّنة كالاستصحاب.
ثالثها: موارد تخلّف الاُصول غير المحرزة عن الواقع، والمراد منها ما يكونالموضوع فيها نفس الشكّ في الواقع كالبراءة.
والتفصّي عن الإشكال يختلف حسب اختلاف المجعول في هذه المواردالثلاثة، ويختصّ كلّ منها بجواب يخصّه، فينبغي إفراد كلّ منها بالبحث.
فنقول: أمّا في باب الطرق والأمارات فليس المجعول فيها حكماً تكليفيّحتّى يتوهّم التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي، بناءً على ما هو الحقّ عندنا، منأنّ الحجّية والطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل وممّا تنالها يدالوضع والرفع ابتداءً،... ومنها الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات، فإنّها بنفسها ممّتنالها يد الجعل ولو إمضاء؛ إذ ليس فيما بأيدينا من الطرق والأمارات ما ل
- (1) فوائد الاُصول 3: 105 ـ 108.
(صفحه118)
يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وإثبات مقاصدهم، بل هي عندهم كالعلم ليعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع ... ولابدّ في الأمارة من أن يكون لهجهة كشف عن الواقع كشفاً ناقصاً، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بإلقاءاحتمال الخلاف في عالم التشريع، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالمالتكوين؛ فكأنّ الشارع أوجد في عالم التشريع فرداً من العلم، وجعل الطريقمحرزاً للواقع كالعلم، بتتميم نقص كشفه وإحرازه، ولذا قامت الطرقوالأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة.
وإذا عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأنّ المجعول فيهنفس الوسطيّة في الإثبات ظهر لك أنّه ليس في باب الطرق والأمارات حكمحتّى ينافي الحكم الواقعي ليقع في إشكال التضادّ أو التصويب، بل ليس حالالأمارة المخالفة إلاّ كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعيفقط مطلقاً، أصاب الطريق الواقع أو أخطأ، فإنّه عند الإصابة يكون المؤدّىهو الحكم الواقعي كالعلم الموافق، ويوجب تنجيز الواقع وصحّة المؤاخذةعليه، وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذوريّة وعدم صحّة المؤاخذةعليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول. هذا ملخّصكلامه قدسسره .
ويتحقّق في هذا الكلام ما يكون صحيحاً عندنا من عدم تحقّق حكمتكليفي مجعول على طبق مفاد الطرق والأمارات، وأنّه ليس فيما بأيدينا منالطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم.
ولعلّه يستفاد من صحيحة أبي يعفور الواردة في معنى العدالة أنّ حسنالظاهر أمارة معتبرة شرعيّة لإحراز العدالة وإن لم يفد المظنّة، مع أنّه لايكونمعتبراً عند العقلاء ظاهراً، وعلى هذا تكون النسبة بين الأمارة الشرعيّة