(صفحه116)
مقام تعلّق الأمر، وهذا الكلام يجري بعينه فيما نحن فيه، فإنّ العناوينوالأوصاف العارضة على الموضوع بلحاظ تعلّق الحكم عليه ـ مثل: عنوانمشكوك الحكم ـ متأخّرة عن الحكم بوجودها الخارجي، وأمّا في مقام تعلّقالأمر وتصوّر صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ فلا فرق بين الأوصاف التي تتّصف بها فينفسها والأوصاف التي تتّصف بها بعد تعلّق الحكم بها، ومقتضى إطلاق الحكمالواقعي هو شموله لصلاة الجمعة المشكوكة الحكم، مثل شموله لصلاة الجمعةالواقعة في المسجد، فيجتمع الحكمان في مورد واحد ويعود الإشكال.
وثانياً: أنّ ما أفاده قدسسره ـ من كون موضوع الحكم الظاهري هي صلاة الجمعةالمتّصفة بأنّها مشكوكة الحكم والمشكوكيّة تكون بعد تحقّق الحكم الواقعيومتأخّرة عنه ـ ليس بصحيح، فإنّ الشكّ في الشيء لا يستلزم تحقّق المشكوكفي الخارج، وإلاّ يلزم انقلاب الشكّ علماً؛ إذ كلّما شكّ في الحكم يعلم بثبوته؛لمكان الملازمة بين الشكّ في الشيء وتحقّق المشكوك خارجاً، وهكذا الأمربالنسبة إلى العلم، حيث إنّ العلم بالشيء لا يتوقّف على تحقّق المعلوم خارجاً،وإلاّ يلزم مطابقة العلم للواقع دائماً وانتفاء الجهل المركّب بالكلّية.
وثالثاً: أنّ ما ذكره قدسسره ـ من أنّ موضوع الحكم هو ذات الموضوع المجرّدعن الحكم، وموضوع الحكم الظاهري هو ذات الموضوع بلحاظ الحكم،فلا يمكن الجمع بين لحاظي التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته ـ أيضليس بصحيح، وذلك لأنّ ما اُخذ موضوعاً في الحكم الواقعي إمّأن يؤخذ بشرط لا، وإمّا أن يؤخذ لا بشرط ـ بعد ملاحظة أنّه لا معنىللإهمال والإجمال في مقام الثبوت وجعل الحكم وتعلّقه على الموضوع، بخلافمقام الإثبات ـ فعلى الأوّل يلزم اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به، وهذتصويب باطل؛ إذ لحاظ صلاة الجمعة بشرط أن لا تكون مشكوكة الحكم
(صفحه 117)
وجعل الوجوب لها بهذا اللحاظ مآله إلى وجوب صلاة الجمعة في حقّ العالمبالحكم خاصّة.
وعلى الثاني يمكن انقسام العنوان المتعلّق للأحكام الواقعيّة إلى معلومالحكم ومشكوك الحكم، فيكون العنوان محفوظاً في كلتا المرتبتين: مرتبةالحكم الواقعي ومرتبة الحكم الظاهري؛ لأنّ لا بشرط يجتمع مع ألف شرط،فليكن أحد هذه الشروط الشكّ في الحكم، ومع انحفاظ العنوان في كلتالمرتبتين يعود المحذور كما هو واضح.
الرأي الرابع: ما ذكره المحقّق النائيني قدسسره (1) من أنّ الموارد التي توهم وقوعالتضادّ بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة على أنحاء ثلاثة:
أحدها: موارد قيام الطرق والأمارات المعتبرة على الخلاف.
ثانيها: موارد مخالفة الاُصول المحرزة للواقع، والمراد منها ما يكون الموضوعفيها هو الشكّ المسبوق بحالة سابقة متيقّنة كالاستصحاب.
ثالثها: موارد تخلّف الاُصول غير المحرزة عن الواقع، والمراد منها ما يكونالموضوع فيها نفس الشكّ في الواقع كالبراءة.
والتفصّي عن الإشكال يختلف حسب اختلاف المجعول في هذه المواردالثلاثة، ويختصّ كلّ منها بجواب يخصّه، فينبغي إفراد كلّ منها بالبحث.
فنقول: أمّا في باب الطرق والأمارات فليس المجعول فيها حكماً تكليفيّحتّى يتوهّم التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي، بناءً على ما هو الحقّ عندنا، منأنّ الحجّية والطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل وممّا تنالها يدالوضع والرفع ابتداءً،... ومنها الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات، فإنّها بنفسها ممّتنالها يد الجعل ولو إمضاء؛ إذ ليس فيما بأيدينا من الطرق والأمارات ما ل
- (1) فوائد الاُصول 3: 105 ـ 108.
(صفحه118)
يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وإثبات مقاصدهم، بل هي عندهم كالعلم ليعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع ... ولابدّ في الأمارة من أن يكون لهجهة كشف عن الواقع كشفاً ناقصاً، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بإلقاءاحتمال الخلاف في عالم التشريع، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالمالتكوين؛ فكأنّ الشارع أوجد في عالم التشريع فرداً من العلم، وجعل الطريقمحرزاً للواقع كالعلم، بتتميم نقص كشفه وإحرازه، ولذا قامت الطرقوالأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة.
وإذا عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأنّ المجعول فيهنفس الوسطيّة في الإثبات ظهر لك أنّه ليس في باب الطرق والأمارات حكمحتّى ينافي الحكم الواقعي ليقع في إشكال التضادّ أو التصويب، بل ليس حالالأمارة المخالفة إلاّ كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعيفقط مطلقاً، أصاب الطريق الواقع أو أخطأ، فإنّه عند الإصابة يكون المؤدّىهو الحكم الواقعي كالعلم الموافق، ويوجب تنجيز الواقع وصحّة المؤاخذةعليه، وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذوريّة وعدم صحّة المؤاخذةعليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول. هذا ملخّصكلامه قدسسره .
ويتحقّق في هذا الكلام ما يكون صحيحاً عندنا من عدم تحقّق حكمتكليفي مجعول على طبق مفاد الطرق والأمارات، وأنّه ليس فيما بأيدينا منالطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم.
ولعلّه يستفاد من صحيحة أبي يعفور الواردة في معنى العدالة أنّ حسنالظاهر أمارة معتبرة شرعيّة لإحراز العدالة وإن لم يفد المظنّة، مع أنّه لايكونمعتبراً عند العقلاء ظاهراً، وعلى هذا تكون النسبة بين الأمارة الشرعيّة
(صفحه 119)
والعقلائيّة عموم من وجه.
ولكن مع ذلك يرد عليه: أوّلاً: أنّ عطف الطريقيّة والكاشفيّة على الحجّيةليس بصحيح، فإنّ الحجّية قابلة للجعل بخلافهما، فإنّهما من الاُمور التكوينيّة،وما هو حاصل تكويناً لا معنى لجعله الشرعي لارتباطه كحرارة الناربالخالقيّة، فالأثر التكويني للقطع والظنّ هو الكشف التامّ أو الناقص، وهكذعنوان الوسطيّة في الإثبات.
وثانياً: أنّ مقايسة الأمارة الشرعيّة بالقطع ليست بصحيح، فإنّ العملبالعلم المخالف للواقع إنّما هو ضرورة يبتلى بها المكلّف لقصور منه، ويكونمعذوراً عقلاً في مخالفة الواقع، ولايرتبط بجعل الحجّية للقطع من الشارع،وهذا بخلاف جعل الحجّية للأمارة المخالفة للواقع ولو إمضاءً، فإنّه ينتهي إلىترخيص من الشارع في مخالفة الأحكام الواقعيّة الفعليّة كما ذكرناه في جوابالمحقّق الخراساني قدسسره ، فكيف يكون هذا قابلاً للتوجيه؟!
وأمّا الاُصول المحرزة فقال قدسسره : فالأمر فيها مشكل، وأشكل منها الاُصولغير المحرزة كأصالة الحلّ والبراءة، فإنّ الاُصول بأسرها فاقدة للطريقيّة لأخذالشكّ في موضوعها، والشكّ ليس فيه جهة إراءة وكشف عن الواقع حتّىيقال: إنّ المجعول فيها تتميم الكشف، فلابدّ وأن يكون في مورد الاُصول حكممجعول شرعي، فيلزمه التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفة الأصل له.
هذا، ولكنّ الخطب في الاُصول التنزيليّة هيّن؛ لأنّ المجعول فيها هو البناءالعملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعلهكالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجهالطريقيّة... فالمجعول في الاُصول التنزيليّة ليس أمراً مغايراً للواقع، بل الجعلالشرعي إنّما تعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أنّه هو الواقع، كما يرشد
(صفحه120)
إليه قوله عليهالسلام في بعض أخبار قاعدة التجاوز «بلى قد ركعت»(1)، فإن كانالمؤدّى هو الواقع فهو، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّه من دون أنيكون قد تعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه.
ويرد عليه: أنّ المنافاة لا ترتفع بهذا الحلّ ـ كما مرّ منّا مراراً ـ فإنّالترخيص في ترك الركوع بمقتضى قوله عليهالسلام : «بلى قد ركعت» مع أنّه لم يركعخارجاً لا يجتمع مع تعلّق الإرادة الجدّية القطعيّة بجزئيّة الركوع للصلاةبصورة الجزئيّة المطلقة، وأنّ تركه نسياناً أيضاً يوجب بطلان الصلاة، ففيالواقع ترك الركوع مستند إلى ترخيص الشارع وحكمه بأنّك قد ركعت،فيعود الإشكال.
وأمّا الاُصول غير المحرزة كأصالة الاحتياط والحلّ والبراءة فقال قدسسره : قدعرفت أنّ الأمر فيها مشكل، فإنّ المجعول فيها ليس الهوهويّة والجري العمليعلى بقاء الواقع، بل مجرّد البناء على أحد طرفي الشكّ من دون إلقاء الطرفالآخر والبناء على عدمه، بل مع حفظ الشكّ يحكم على أحد طرفيه بالوضعأو الرفع، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط، والحلّية المجعولة في أصالة الحلّتناقض الحلّية والحرمة الواقعيّة على تقدير تخلّف الأصل عن الواقع، بداهة أنّالمنع عن الاقتحام في الشيء كما هو مفاد أصالة الاحتياط أو الرخصة فيه كمهو مفاد أصالة الحل، ينافي الجواز في الأوّل والمنع في الثاني.
ثمّ قال في مقام الجواب عنه: إنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين:
أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاّحقة للحكم الواقعي أوموضوعه كحالة العلم والظنّ، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعلحكم يضاد الحكم الواقعي؛ لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.
- (1) الوسائل 6: 317، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 3.