(صفحه 111)
المصالح.
والحكم الإنشائي ما هو مجعول بعنوان ضابطة كلّيّة نحو قوله تعالى: «أَحَلَّاللَّهُ الْبَيْعَ»(1)، وبعد بيان مخصّصاته ومقيّداته، مثل قوله عليهالسلام : «لا تبع ما ليسعندك»(2)، و«نهى النبيّ عن بيع الغرر»(3) يصير الحكم فعليّاً، فالحكم الفعلي متعلّقت به الإرادة الجدّيّة في مقام إتيان العمل وتحقّقه في الخارج، ومن فوائدجعل الحكم الإنشائي التمسّك بإطلاقه في موارد الشكّ، كالشكّ في حلّية بيعالمعاطاة ـ مثلاً ـ فالصحيح أنّه ليس للحكم الشرعي سوى هذين المرتبتين،وهذا هو الحقّ ومطابق للواقعيّة.
التفسير الثالث: ما ذكره بعض الأعلام قدسسره (4) من أنّه ليس للحكم إلمرتبتان:
الاُولى: مرتبة الجعل والإنشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضيّةالحقيقيّة، كقوله سبحانه: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِسَبِيلاً»(5)، ففي هذه الرتبة تنشأ الأحكام على موضوعاتها المقدّر وجودهبجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط وعدم الموانع على نهج القضايالحقيقيّة.
الثانية: مرتبة الفعليّة والخروج عن التعليق والتقدير بتحقّق موضوعهخارجاً، كما إذا صار المكلّف مستطيعاً مثلاً.
وفيه: أوّلاً: أنّه كلام بلا شاهد، ومن البعيد أن يكون الحكم الواحد بالنسبة
- (2) الوسائل 18: 47، الباب 7 من أبواب احكام العقود، الحديث 2.
- (3) الوسائل 17: 448، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.
(صفحه112)
إلى شخص إنشائيّاً، وبالنسبة إلى شخص آخر فعليّاً، مع مخالفته لما هو متداولبين العقلاء في كيفيّة التقنين كما ذكرناه، ولازم هذا الكلام عدم كون مثل «أَحَلَّاللَّهُ الْبَيْعَ» حكماً إنشائيّاً، ولا حكماً فعليّاً؛ إذ الحكم في باب المطلق يتعلّقبالطبيعة، ولا نظارة لها إلى الأفراد والمصاديق حتّى تكون محقّقة الوجود أومقدّرة الوجود، بل يستحيل حكايتها عن الأفراد كما مرّ ذكره مراراً.
وثانياً: أنّ لازم هذا الكلام إرجاع القوانين المجعولة في ضمن الجملالإنشائيّة، مثل: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» إلى الجمل الخبريّة لتصحيح القضيّةالحقيقيّة، كقولنا: «المكلّف يجب عليه إقامة الصلاة» بأنّ الحكم يكون بالنسبةإلى «زيد» قبل البلوغ إنشائيّاً، وبعد بلوغه يصير فعليّاً، وبناءً على هذا البيانلابدّ من الالتزام بهذا التوجيه في مثل: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، بخلاف ما ذكرناهمن التفسير للحكم الإنشائي والفعلي.
وثالثاً: أنّ لازم هذا الكلام تعلّق الإرادة الجدّية بجميع مصاديق البيع وإنكان غرريّاً، فكلّ معاملة إذا تحقّقت واتّصفت بعنوان البيعيّة يكون حلالاً نافذعند اللّه، فإنّ بعد تحقّق موضوع قضيّة حقيقيّة تتعلّق به الإرادة الجدّية، وهذينافي التقييد والتخصيص، ولايكون قوله عليهالسلام : «نهى النبيّ عن بيع الغرر» قابلللجمع مع «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»، بخلاف ما ذكرناه بلحاظ تعلّق الإرادةالاستعماليّة والحكم الإنشائي بحلّية جميع أفراد البيع ومصاديقه، وهذا لا يتنافىمع دخالة بعض القيود في متعلّق الإرادة الجدّية.
نعم، أصالة التطابق حاكم بتطابق الإرادتين إن لم يكن الدليل على الخلافكما في بيع المعاطاة، فما يكون متعلّق الإرادة الاستعماليّة هو حكم إنشائي، وميكون متعلّق الإرادة الجدّية هو حكم فعلي.
إذا عرفت هذه المقدّمة بالنسبة إلى المحذور الثالث ـ أي اجتماع الإرادة
(صفحه 113)
والكراهة أو الحبّ والبغض في شيء واحد إذا أدّت الأمارة إلى حرمة مّا هوواجب في الواقع أو وجوب ما هو حرام في الواقع ـ فنقول: والجواب عنه مهو التحقيق في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، وقد مرّ في مسألةالمتزاحمين أنّه لامحيص إلاّ عن رفع اليد عن الأمر بالمهمّ في مقام الفعليّة، للعدم ملاك الوجوب فيه، بل لعدم قدرة المكلّف على امتثالهما معاً ورعاية الأمربالأهمّ، فلا يترتّب على مخالفة الأمر بالمهمّ عقوبة ولا مذمّة.
ومن هنا يستفاد فيما نحن فيه بأنّ صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ إذا كانت بحسبالواقع واجبة ولكنّه لم يصل إلى المكلّف لمانع، فلابدّ له إمّا من الاحتياط التامّالذي يؤدّي إلى العسر والحرج الشديدين، بل وخروج الناس عن ربقةالإسلام وانزجارهم عن الدِّين، وإمّا العمل على وفق الأمارات الذي يستلزمالمخالفة للواقع أحياناً ويوجب تفويت مصالح الأحكام الواقعيّة، ولكنّه أهونللشارع من تنفّر الناس وانزجارهم عن أساس الإسلام، فالضرورة تقتضيأن يجعل الشارع بعض الأمارات العقلائيّة حجّة، فالملاك الذي يقتضي رفعاليد عن الأمر بالمهمّ هو الذي يقتضي هنا رفع اليد عن الأحكام الواقعيّة.
آراء اُخرى لدفع المحذور:
وتتحقّق هنا آراء اُخرى للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي:
الأوّل: ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (1) من أنّ الحكمالظاهري قد اُخذ في موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي، فيكون الحكمالظاهري في طول الشكّ في الحكم الواقعي لا محالة، والشكّ في شيء أيضيكون في طول ذلك الشيء، فيكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكمالواقعي برتبتين، فلا تبقى منافاة بينهما.
(صفحه114)
وأشكل عليه صاحب الكفاية قدسسره (1) بأنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن فيمرتبة الحكم الواقعي لمكان الطوليّة، إلاّ أنّ إطلاق الحكم الواقعي لحالاتالجهل والعلم يشمل مرتبة الحكم الظاهري، فإنّ اختصاص الحكم الواقعيبالعالم به يلزم التصويب الباطل، وعليه فمحذور الجمع بين الحكم الواقعيوالظاهري باقٍ على حاله.
الرأي الثاني: ما ذكره المحقّق الخراساني قدسسره (2) من أنّ المجعول في باب الطرقوالأمارات هو الحجّية التي هي عبارة عن المنجّزية عند مطابقة الأمارة للواقعوالمعذّرية عند المخالفة، فالأمارة لا تستتبع حكماً شرعيّاً تكليفيّاً أصلاً، حتّىتحصل غائلة التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّه لا جعل ولا تأسيس للشارع في مورد الأمارات، بلالموجود هو إمضاء ما عليه بناء العقلاء.
ولكنّه قابل للتوجيه بأنّ الحجّية الإمضائيّة تكون بمعنى المنجّزية عندالإصابة والمعذّرية عند الخطأ لدى المحقّق الخراساني قدسسره .
وثانياً: أنّ كلامه قدسسره صحيح في صورة مطابقة الأمارة للواقع، وأمّا في صورةالمخالفة فلا ترتفع الغائلة بمجرّد إنكار الحكم الظاهري وتعويضه بجعل الحجّية،فإنّ منشأ ترك ما هو واجب بحسب الواقع هو تجويز الشارع بالحجّيةالإمضائيّة للأمارة الدالّة على عدم وجوبه، فيعود المحذور بأنّ الوجوبالواقعي وتعلّق الإرادة الجدّية بفعل شيء ـ مثلاً ـ كيف يكون قابلاً للجمع معتجويز الترك؟!
الرأي الثالث: ما ذكره المحقّق الفشاركي قدسسره على ما نقله تلميذه المحقّق
(صفحه 115)
الحائري قدسسره في كتاب درر الفوائد(1)، وحاصل كلامه قدسسره : أنّ موضوع الحكمالظاهري متفاوت مع موضوع الحكم الواقعي، ولا منافاة بينهما، مثلاً: إذتصوّر المولى موضوع الحكم الواقعي في مقام جعل الحكم، فيلاحظ نفسصلاة الجمعة مع الحالات التي يمكن أن تتّصف بها في نفسها مع قطع النظر عنتعلّق الحكم بها، مثل: كونها في المسجد أو الدار وأمثال ذلك.
وأمّا الحالات المتأخّرة عن تعلّق الحكم بها ـ مثل: عنوان كونها معلومةالحكم أو مشكوكة الحكم ـ فلا يمكن أن يتصوّر معها في هذه الرتبة؛ لعدمإمكان إدراج الأوصاف المتأخّرة عن الحكم في موضوعه.
والحاصل: أنّ موضوع الحكم الواقعي هو صلاة الجمعة مع الحالات التيلاترتبط بتعلّق الحكم بها، وموضوع الحكم الظاهري هو صلاة الجمعة التيتكون مقيّدة بعروض الشكّ في حكمها الواقعي ومتّصفة بكونها مشكوكةالحكم، وحينئذٍ لا مجال للسؤال عن كيفيّة الجمع بين الحكمين. هذا تمامكلامه قدسسره بتلخيص وإيجاز.
ويرد عليه: أوّلاً: ما ذكرناه في بحث التعبّدي والتوصّلي في مقام الجواب عنالمحقّق الخراساني قدسسره حيث قال: إنّه لا يمكن للمولى أخذ قصد القربة ـ بمعنىإتيان المأمور به بداعي الأمر المتعلّق به ـ في متعلّق الأمر بعنوان الجزئيّة أوالقيديّة، فإنّه يستلزم جعل ما هو متأخّر عن الأمر في رتبة متقدّمة على الأمر.
وقلنا في جوابه: إنّ المتأخّر عن الأمر هو داعويّته الخارجيّة، فداعويّةالأمر الخارجيّة تتوقّف على وجوده الخارجي، وما يتوقّف عليه الأمر هوتصوّر الموضوع بقيد كونه مأموراً به، ومعلوم أنّه لا يكون تصوّر الشيء فرعوجوده الخارجي، فلا مانع من تصوّر داعويّة الأمر وأخذها في الموضوع في
- (1) درر الفوائد 2: 351 ـ 354.