(صفحه122)
ليس رفع التكليف عن موطنه حتّى يلزم التناقض، بل رفع التكليف عمّيستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من قوله صلىاللهعليهوآله :«رفع ما لا يعلمون» نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلبيان، فكما أنّ الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لتنافي الحكم الواقعي ولا تضادّه، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله :«رفع ما لا يعلمون».
والسرّ في ذلك: هو أنّ هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخّررتبتها عنه؛ لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجبللحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجّز له، فقد لوحظ في الرخصة وجودالحكم الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي؟!
وبالجملة، الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكونفي عرض المنع والحرمة المستفاد من إيجاب الاحتياط، وقد عرفت أنّ إيجابالاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعاً عليه، فما يكون في عرضه يكون فيطول الواقع أيضاً، وإلاّ يكون ما في طول الشيء في عرضه. هذا تمام كلامه قدسسره بتلخيص وإيجاز.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ ما ذكره من الاعتبارين للشكّ في الحكم الواقعي، وأنّباعتبار كونه من الطوارئ والعوارض للحكم الواقعي لا يمكن أخذه موضوعلحكم آخر، وأمّا باعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليهفيمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمِّماً أو مؤمّناً لكونه بهذا الاعتبار متأخّرعن الحكم الواقعي، فليس بصحيح.
فإنّ الشكّ باعتبار الأوّل أيضاً متأخّر عن الحكم الواقعي، ويشهد لهالتعبير بالعوارض والطوارئ، فإنّ كلّ عارض متأخّر عن المعروض ولو
(صفحه 123)
بتأخّر رتبي، فلا يصحّ التفكيك بين الاعتبارين من هذه الناحية.
وثانياً: أنّه ذكر في ذيل كلامه ما هو مخالف لما حقّق في العلوم العقليّة، وهوأنّ ما مع المتقدّم فيالرتبة لا يكون متقدّماً رتبةً، وما مع المتأخّر في الرتبة ليكون متأخّراً رتبة.
توضيح ذلك: أنّه لابدّ من كون التقدّم والتأخّر الرتبي مستنداً إلى الملاك،ومن هنا كانت العلّة متقدّمة على المعلول رتبة لمكان العلّية، وعليه فلو كان معالعلّة شيء مقارن لا يقتضي الحكم بتقدّمه رتبةً على المعلول لمجرّد المقارنةوالمعيّة مع العلّة، وكذا الحال بالنسبة إلى مقارن المعلول. نعم، إن تحقّق للمعلولعلّتان يصحّ القول بأنّ هذا المعلول متأخّر عن كلتا العلّتين، فالمعيّة لا تقتضيالتقدّم على المعلول.
ولكنّه قدسسره قال: كما أنّ إيجاب الاحتياط في النفس المردّدة بين المسلم والكافرمتأخّر عن الحكم الواقعي في الرتبة، كذلك قاعدة الحلّية متأخّرة عنه فيالرتبة؛ لكونهما في رتبة واحدة، فإذا كان أحدهما متأخّراً عن شيء لابدّ منتأخّر الآخر، فلا يصحّ الحكم بتأخّر الرخصة عن الحكم الواقعي رتبة لمجرّدكونها في عرض إيجاب الاحتياط الذي هو في طول الحكم الواقعي ومتأخّرعنه رتبة.
وثالثاً: سلّمنا أنّه لا منافاة بين إيجاب الاحتياط والحكم الواقعي، بل يكونإيجابه لتحفّظ الحكم الواقعي في مورد الشكّ البدوي كما هو المفروض هنا،ولكنّ الإشكال المهمّ في قاعدة الحلّية والطهارة مع أنّ جعلهما يكون بداعيالتسهيل والفرار عن الحكم الواقعي، فإن تعلّقت إرادة جدّية المولى بحرمةشرب التتن ـ مثلاً ـ كيف يكون هذا قابلاً للجمع مع قوله: كلّ شيء شكّ فيحلّيته وحرمته فهو لك حلال؟! هذا محور الإشكال، وكلامه قدسسره بطوله وتفصيله
(صفحه124)
لا يكون جواباً عنه.
والتحقيق هنا: أنّ حلّ الإشكال يكون برفع يد الشارع عن الحكم الواقعيكرفع يده عن أحد الحكمين في باب التزاحم.
توضيح ذلك: أنّه لابدّ للشارع إمّا من إيجاب الاحتياط في جميع موارداحتمال تحقّق التكليف، وإمّا اعتبار الطرق والأمارات العقلائيّة التي تكون غالبمطابقة للواقع، والأوّل يوجب انزجار الناس عن أساس الدين وينافيالسمحة والسهلة التي يكون تشريع الدِّين على أساسها، ويوجب تعطيل اُمورمعاش الناس؛ لاشتغالهم في أكثر الأوقات بإتيان الواجبات المحتملة والتحرّزعن المحرّمات المحتملة، فيتعيّن الثاني بأنّ مصلحة حفظ أساس الدين تقتضيجعل الشارع قاعدة الطهارة والحلّية في الموارد المشكوكة من باب المسامحةوالسهولة، والمصلحة المذكورة تقتضي رفع اليد عن الحكم الواقعي مع فعليّتهوتحقّق مناطه، وهذه مسألة عقلائيّة.
ومن ذلك ظهر: أوّلاً: أنّه لا محذور في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعيبما ذكرناه.
وثانياً: أنّ التعبّد بالمظنّة لا يستلزم أيّ محذور من المحذورات المذكورة.
(صفحه 125)
حكم الشكّ في الحجّيّة
حكم الشكّ في الحجّيّة
إذا كان مفاد الدليل القطعي هو اعتبار الأمارات وحجّيتها فيجب متابعتهوالأخذ به، وإن كانت الأمارة مشكوكة الحجّية، ولم يقم دليل على إثباتحجّيتها ولا نفيها فقد ذكرت وجوه لإثبات أنّ مقتضى القاعدة هنا عدمالحجّية:
الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (1) من أنّ التعبّد بالظنّ الذي لميدلّ على التعبّد به دليل محرمّ بالأدلّة الأربعة:
أمّا الكتاب فيكفي منه قوله تعالى: «قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِتَفْتَرُونَ»(2)، حيث دلّ على أنّ ما ليس بمأذون من قبل اللّه تعالى فإسناده إليهمحرّم وافتراء.
وأمّا السنّة فمنها قول الإمام الصادق عليهالسلام في عداد القضاة: «القضاة أربعة،ثلاثة في النار وواحد في الجنّة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجلقضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو فيالنار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(3).
- (3) الوسائل 27: 22، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
(صفحه126)
فقوله عليهالسلام : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار» يدلّ على التوبيخلأجل القضاء بما لا يعلم.
وأمّا الإجماع فقد ادّعاه الوحيد البهبهاني قدسسره في بعض رسائله من أنّ حرمةالعمل بما لا يعلم من البديهيّات عند العوام، فضلاً عن العلماء والخواص.
وأمّا العقل فقد أطبق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على اعتقاده وتديّنهبما لا يعلم بوروده من المولى وإسناده إليه.
وفيه: أوّلاً: أنّ هذه الأدلّة لا تنطبق على المدّعى؛ إذ المدّعى أنّ الأمارة التيلم يدلّ دليل على اعتبارها وشكّ في حجّيتها متّصفة بعدم الحجّية، وغاية ميستفاد من الأدلّة هو حرمة الإسناد إلى الشارع بغير علم، إلاّ أن تتحقّقالملازمة بين حرمة الإسناد وعدم الحجّية، فتماميّة هذا الاستدلال تتوقّف علىثبوت الملازمة بينهما.
وقد ذكر كثير من العلماء موارد النقض لهذه الملازمة:
الأوّل: ما عن المحقّق الخراساني قدسسره (1) من أنّ الظنّ على الحكومة حجّة،ولكن لا يصحّ إسناد المظنون في مورده إلى الشارع كما هو واضح.
والتحقيق: أنّ هذا النقض ليس بوارد عليه؛ إذ الحجّة في مورد الظنّالانسدادي على الحكومة ليس هو الظنّ كما تخيّل، بل الحجّة هي العلمالإجمالي بثبوت التكاليف اللزوميّة من الوجوبيّة والتحريميّة في الشريعة،فإطلاق الحجّة على الظنّ مسامحة.
بيان ذلك: أنّ مقدّمات دليل الانسداد على الحكومة لا تنتج حجّية الظنّ،بل نتيجتها التبعيض في مقابل الاحتياط، وذلك بالأخذ بالمظنونات دونالمشكوكات والموهومات؛ إذ الاحتياط التامّ في جميعها بمقتضى العلم الإجمالي