(صفحه126)
فقوله عليهالسلام : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار» يدلّ على التوبيخلأجل القضاء بما لا يعلم.
وأمّا الإجماع فقد ادّعاه الوحيد البهبهاني قدسسره في بعض رسائله من أنّ حرمةالعمل بما لا يعلم من البديهيّات عند العوام، فضلاً عن العلماء والخواص.
وأمّا العقل فقد أطبق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على اعتقاده وتديّنهبما لا يعلم بوروده من المولى وإسناده إليه.
وفيه: أوّلاً: أنّ هذه الأدلّة لا تنطبق على المدّعى؛ إذ المدّعى أنّ الأمارة التيلم يدلّ دليل على اعتبارها وشكّ في حجّيتها متّصفة بعدم الحجّية، وغاية ميستفاد من الأدلّة هو حرمة الإسناد إلى الشارع بغير علم، إلاّ أن تتحقّقالملازمة بين حرمة الإسناد وعدم الحجّية، فتماميّة هذا الاستدلال تتوقّف علىثبوت الملازمة بينهما.
وقد ذكر كثير من العلماء موارد النقض لهذه الملازمة:
الأوّل: ما عن المحقّق الخراساني قدسسره (1) من أنّ الظنّ على الحكومة حجّة،ولكن لا يصحّ إسناد المظنون في مورده إلى الشارع كما هو واضح.
والتحقيق: أنّ هذا النقض ليس بوارد عليه؛ إذ الحجّة في مورد الظنّالانسدادي على الحكومة ليس هو الظنّ كما تخيّل، بل الحجّة هي العلمالإجمالي بثبوت التكاليف اللزوميّة من الوجوبيّة والتحريميّة في الشريعة،فإطلاق الحجّة على الظنّ مسامحة.
بيان ذلك: أنّ مقدّمات دليل الانسداد على الحكومة لا تنتج حجّية الظنّ،بل نتيجتها التبعيض في مقابل الاحتياط، وذلك بالأخذ بالمظنونات دونالمشكوكات والموهومات؛ إذ الاحتياط التامّ في جميعها بمقتضى العلم الإجمالي
(صفحه 127)
موجب لاختلال النظام أو العسر والحرج، ولايصحّ ترجيح المشكوكاتوالموهومات على المظنونات؛ لكونه من ترجيح المرجوح على الراجح، فلابدّمن الاحتياط في مورد الظنّ فقط ومنشأه العلم الإجمالي بثبوت التكاليف،فكيف يصحّ إطلاق الحجّة عليه؟!
الثاني: ما عن المحقّق العراقي قدسسره (1) من أنّ الشكّ في الشبهات البدوية قبلالفحص حجّة يعني إن كان شرب التتن بحسب الواقع حراماً يوجب جريانالبراءة قبل الفحص، لتنجّز الحرمة الواقعيّة، لعدم جواز إجراء البراءة فيموردها، ومع ذلك لا يجوز إسناد المشكوك إلى الشارع بالبداهة.
ثمّ قال: وهكذا إيجاب الاحتياط في الشبهات البدوية حجّة ومنجّز للواقعبلا إشكال، إلاّ أنّه لا يجوز الإسناد في مورده كما هو واضح.
وجوابه: أنّ الشكّ البدوي قبل الفحص ليس بحجّة، بل الحجّة في الشبهاتالبدويّة قبل الفحص هو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الشريعة، فإنّهيوجب اشتغال الذمّة عند عدم وجود المؤمّن، وهكذا إيجاب الاحتياط ليسبحجّة، وإنّما هو رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فالحجّة هوالعلم الإجمالي السابق على الشكّ، إلاّ أنّ الشارع جعل مؤمّناً في الشبهاتالبدويّة بعد الفحص، وأمّا قبل الفحص فهو باقٍ على حاله.
ولكنّ الملازمة المذكورة تحتاج إلى دليل ولابدّ من إثباتها، وعدم إثباتهومشكوكيّتها يكفي لعدم تماميّة استدلال الشيخ الأنصاري قدسسره .
الوجه الثاني: هو استصحاب عدم الحجّية؛ لأنّ حجّية الأمارة منالحوادث، وكلّ حادث مسبوق بالعدم.
وأورد عليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره (2) بأنّ حرمة العمل بالظنّ يكفي في
- (1) نهاية الأفكار 3: 80 ـ 81.
(صفحه128)
موضوعها عدم العلم بورود التعبّد، من غير حاجة إلى إحراز عدم ورودالتعبّد به ليحتاج في ذلك إلى استصحاب العدم ثمّ إثبات الحرمة.
والحاصل: أنّ أصالة عدم الحادث إنّما يحتاج إليها في الأحكام المترتّبة علىعدم ذلك الحادث، وأمّا الحكم المترتّب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفيفيه الشكّ، ولا يحتاج إلى إحراز عدمه بالأصل، وهذا نظير قاعدة الاشتغالالحاكمة بوجوب حصول اليقين بالفراغ، فإنّه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراءأصالة عدم فراغ الذمّة، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ.
واعترض عليه المحقّق الخراساني قدسسره (1) بأمرين:
الأوّل: أنّ الحجّية من الأحكام الوضعية القابلة للجعل الشرعي، فيصحّإجراء الاستصحاب فيها وجوداً وعدماً، فإنّ استصحاب عدم الحجّيةكاستصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة، فكما أنّه لا يتوقّف استصحابعدم الوجوب والحرمة على أثر آخر وراء عدمها، فكذلك استصحاب عدمالحجّية بلا انتظار أثر آخر وراء عدم الحجّية.
الأمر الثاني: أنّ الحكم الشرعي إمّا أن يكون مترتّباً على الواقع فقطفلامجال حينئذٍ إلاّ للاستصحاب لإحراز الواقع، وإمّا أن يكون مترتّباً علىالشكّ فقط، فلا مورد حينئذٍ إلاّ للقاعدة المضروبة لحكم الشكّ، وقد يكونمترتّباً على كلّ من الواقع والشكّ، فيكون المورد قابلاً لجريان الاستصحابوالقاعدة، إلاّ أنّ الاستصحاب يجري دون القاعدة لحكومته عليها؛ لحكومةاستصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة.
ولايخفى أنّ ما نحن فيه من قبيل القسم الأخير، فإنّ حرمة التعبّد كما هي
(صفحه 129)
أثر للشكّ في الحجّية، كذلك أثر لعدم الحجّية واقعاً، فلكلّ من الاستصحابوالقاعدة مجال، إلاّ أنّ الاستصحاب يقدّم بنكتة الحكومة.
والتحقيق: أنّ هنا عنوانين مستقلّين، وتدلّ على حرمة كلّ منهما أدلّةخاصّة: أحدهما: عنوان التشريع؛ بمعنى إدخال ما ليس من الدين في الدين،أو إخراج ما هو منه عنه، وهو حرام بلا إشكال، وتعلّق الحرمة على واقعيّةالتشريع بلا مدخليّة لعلم المكلّف وجهله فيه، إلاّ أنّ الجهل مانع عن استحقاقالعقوبة كما هو الحال في سائر المحرّمات الواقعيّة، والأدلّة الأربعة تدلّ علىحرمته ظاهراً.
وثانيهما: إسناد ما لا يعلم كونه من الشارع إليه، وهو محرّم أيضاً.
ويدلّ على حرمته قوله تعالى: «وَإِذَا فَعَلُواْ فَـحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَءَابَآءَنَا وَ اللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَلاَ تَعْلَمُونَ»(1).
وأمّا الاستدلال بقوله تعالى: «ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ»(2)فغير تامّ؛ لأنّ الافتراء هو الانتساب إلى اللّه تعالى عمداً وكذباً، وهو أجنبيّعن انتساب المشكوك فيه إليه تعالى.
وأمّا الأمارة المشكوكة الحجّية فكما أنّها موضوع لحرمة الإسناد إلىالشارع بغير علم، كذلك هي موضوع لحرمة التشريع، ولا مجال لجريانالاستصحاب بلحاظ العنوان الأوّل، فإنّ موضوع الحرمة هو الشكّ الحاصلبالفعل، ومجرّد الشكّ وعدم العلم يكفي في ترتّب الحرمة عليها كما قال به الشيخالأنصاري قدسسره .
(صفحه130)
وأمّا بلحاظ العنوان الثاني فيجري الاستصحاب، فإنّ إحراز ما ليس منالدين قد يكون وجداناً، وقد يكون بالأصل مثل: استصحاب عدم كونه منالدين، وبإدخاله يتحقّق عنوان التشريع المحرّم، وعلى هذا يصحّ ما قال بهصاحب الكفاية قدسسره ، فالحقّ هنا التفصيل بين العنوانين.
الوجه الثالث: هو ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره (1) من أنّ الحجّة لها أثران:الأوّل: التنجيز في صورة الإصابة للواقع، فيوجب استحقاق العقاب علىالمخالفة، والثاني: التعذير في صورة عدم الإصابة فلا معنى للعقاب، ومنالواضح أنّ موضوع هذين الأثرين هو الحجّية الفعليّة دون الإنشائيّة، أعني ماُحرز وعلم أنّه حجّة بالفعل، فإذا شكّ في حجّية شيء يقطع بعدم ترتيب الأثرعليه من التنجيز والتعذير، وذلك لانتفاء موضوعه.
والدليل على ذلك أنّ الحجّة هي ما يصحّ أن يحتجّ به المولى على عبدهليقطع عذره، ويصحّ للعبد أن يحتجّ به على المولى ليثبت عذره، ومن المعلومعقلاً ووجداناً توقّف هذين الأثرين على العلم بالحجّة صغرى وكبرى، وليترتّب على واقع الحجّة. وهذا هو الصحيح عندي أيضاً كما هو واضح.