(صفحه 131)
حجّية الظواهر
الحجج والأمارات
حجّية الظواهر
إذا عرفت إمكان التعبّد بالمظنّة ثبوتاً يقع البحث في الأمارات التي قامالدليل على حجّيتها أو ادّعي قيام الدليل على حجّيتها، منها ظواهر الألفاظوالكلمات، والبحث فيها من جهات:
الاُولى: في أنّه لا شكّ في حجّية الظواهر فيالجملة، ومنشأ ذلك استقراربناء العقلاء على العمل بها إجمالاً في جميع اُمورهم، ومعلوم أنّ الشارع في مقامتفهيم مقاصده لم يتّخذ طريقاً خاصّاً لتحقيق هذا الغرض، بل جرى على مهو المتعارف بين العقلاء من الأخذ بالظواهر، ومعناه أنّ الظواهر حجّة عندالشارع إمضاء.
الجهة الثانية: في أقسام الدلالة: فبعد خروج الألفاظ المهملة عن بحثحجّية الظواهر رأساً يُعلم أنّ لكلّ لفظ دلالات ثلاثة:
الاُولى: ما تسمّى بالدلالة التصوّرية، أو الوضعيّة وهي انتقال الذهن مناستماع اللفظ إلى المعنى الموضوع له، وهذه الدلالة تتوقّف على ثبوت الوضعوالعلم به، فهي لا تنفك عن اللفظ، سواء صدر من متكلِّم نائم أو سكران أومذياع.
(صفحه132)
الدلالة الثانية: وتسمّى بالدلالة التصديقيّة الاُولى، وهي دلالة اللفظ علىكون المعنى مراداً للمتكلّم بالإرادة الاستعماليّة، أي دلالة اللفظ على أنّ المتكلّمأراد تفهيم المعنى الموضوع له، فاستعمله فيه.
ومعلوم أنّ هذه الدلالة ـ مضافاً إلى توقّفها على ثبوت الوضع والعلم به تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام تفهيم مراده وملتفتاً إلى مفهوم كلامه،وعدم نصب القرينة المتّصلة على خلاف المعنى الموضوع له؛ إذ مع ذكر قرينة«يرمي» ـ مثلاً ـ في قوله: «رأيت أسداً يرمي» لا تدلّ كلمة «أسد» على أنّالمتكلّم أراد تفهيم المعنى الحقيقي، فيعتبر في هذه الدلالة أربعة خصوصيّات:1ـ الوضع. 2ـ العلم بالوضع. 3ـ كون المتكلّم في مقام التفهيم. 4ـ عدم اشتمالالكلام على القرينة المتّصلة.
الدلالة الثالثة: الدلالة التصديقيّة الثانية، وهي دلالة الكلام على كون المعنىمراداً للمتكلّم بالإرادة الجدّية، وهذه الدلالة ـ مضافاً إلى توقّفها على ثبوتالخصوصيّات الأربعة المذكورة ـ تتوقّف على أمرين آخرين: أحدهما: كونالمتكلّم في مقام الجدّ لا في مقام الهزل مثلاً، وثانيهما: عدم وجود قرينة منفصلةعلى إرادة خلاف الظاهر من الكلام؛ لأنّها تكشف عن عدم كون المعنى مرادللمتكلّم بالإرادة الجدّية، ولذا قلنا في مبحث العام والخاص: إنّ الخاصّالمتّصل يمنع عن أصل انعقاد ظهور العام في العموم، وأمّا الخاصّ المنفصلفلايمنع من انعقاد الظهور، إنّما يكشف عن عدم كون العموم مراداً للمتكلّمبالإرادة الجدّيّة.
الجهة الثالثة: في الخصوصيّات المعتبرة في كلمات الشارع لاستفادة الحكمالشرعي منها:
الاُولى: إحراز أصل صدور الكلام من الشارع، إمّا مباشرة وإمّا مع
(صفحه 133)
الواسطة، والواسطة قد تكون من قبيل الخبر المتواتر، واُخرى الخبرالمستفيض، وثالثة الخبر الواحد ـ بناءً على حجّيته ـ وهذه الخصوصيّة منمختصّات السنّة، لا تعتبر في الكتاب بلحاظ كونه قطعيّالصدور، وطريقإحراز القرآنيّة منحصر بالتواتر فقط.
الثانية: إحراز ظهور مفردات الكلام والهيئات التركيبيّة، ولابدّ مناستفادته من قول أهل اللغة والتبادر، ولابدّ من إحراز كيفيّة الاستعمال منطريق علائم الحقيقة والمجاز.
الثالثة: إثبات جهة الصدور، بأنّ الكلام إنّما صدر لأجل بيان الحكمالواقعي لا لجهة اُخرى من تقيّة وغيرها، ومعلوم أنّ المراد الجدّي في بابالتقيّة هو المراد الاستعمالي، ولكنّ الغرض من صدور الكلام يكون حفظالنفس المحترمة أو أساس المذهب لا بيان الحكم الواقعي.
الرابعة: إثبات الإرادة الاستعماليّة، فإنّها قد تكون مشكوكة لنا، فإذا قالمتكلِّم: «رأيت أسداً» ـ مثلاً ـ وشككنا في أنّ مراده من كلمة «الأسد» هوالمعنى الحقيقي أو المجازي، فلعلّ مراده المعنى المجازي، وعدم ذكر قرينة«يرمي» يكون مستنداً إلى النسيان والغفلة والخطأ، فالمرجع هنا على قولالمشهور في باب المجاز ـ أي استعمال اللفظ في غير ما وضع له ـ هو أصالةالحقيقة، وعلى ما هو المختار فيه ـ أي استعمال اللفظ في المعنى الحقيقيوالموضوع، ولكن ادّعاءً ـ يكون المرجع أصالة عدم النسيان والغفلة والخطأ،فعلى كلا القولين يحمل الكلام على المعنى الحقيقي.
ويستفاد من كلام الشيخ الأنصاري قدسسره (1) أنّ المرجع هنا أصالة عدم القرينة،مع أنّه لا يوجد أصل زائد على الأصلين المذكورين، ولذا اعترض عليه المحقّق
(صفحه134)
الخراساني قدسسره (1) والحال أنّه أيضاً ذكر ما يرتبط بالمراد الجدّي لا بالمرادالاستعمالي، فخلط بينهما.
الخامسة: إثبات الإرادة الجدّية، فإذا شككنا في تعلّق الإرادة الجدّية بمتعلّقت به الإرادة الاستعماليّة يكون المرجع هنا أصالة التطابق بين الإرادتينإن لم يكن الدليل على خلافه، وهذه من الاُصول العقلائيّة، ولكنها تجري فيالأدلّة الشرعيّة أيضاً بلحاظ عدم اتّخاذ الشارع طريقاً خاصّاً في مقام التفهيموالتفهّم.
وأمّا أصالة الظهور التي نراها كثيراً مّا في كلام المحقّق الخراساني قدسسره فإنكانت بالنسبة إلى تشخيص المراد الاستعمالي فقد عرفت أنّه لا يوجد أصلزائد على الأصلين المذكورين، وإن كانت بالنسبة إلى تشخيص المراد الجدّيفهي أصالة التطابق المذكورة، وليس لنا أصل آخر باسم أصالة الظهور،فالبحث عن حجّية الظواهر يكون بداعي وجدان الطريق لاستكشاف المرادالجدّي.
ولا يخفى أنّ منشأ الشكّ في المراد الاستعمالي في باب الروايات إن كاناحتمال نسيان الراوي وخطأه في نقل القرينة فالمرجع أصالة عدم الخطوالنسيان، واحتمال الخطأ والنسيان والسهو بالنسبة إلى نفس الشارع منتفٍرأساً.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الأقوال في حجّية الظواهر متعدّدة، والقولالمشهور والموافق للتحقيق أنّها حجّة مطلقاً، سواء أفادت الظنّ بالوفاق أم لا،وسواء كان الظنّ بالخلاف أم لا، من غير فرق في ذلك كلّه بين من قصد إفهامهبها وبين من لم يقصد، ولا بين ظواهر الكتاب وغيره.
- (1) اُنظر: كفاية الاُصول 2: 65.
(صفحه 135)
القول الثاني: إنّ حجّية الظواهر مشروطة بحصول الظنّ بالوفاق، أي الظنّبإرادة المتكلّم لها، فمع عدمه لا تكون حجّة.
القول الثالث: إنّ حجّية الظواهر مشروطة بعدم حصول الظنّ بالخلاف، فمعالظنّ بالخلاف لا حجّية لها.
والجواب عنها: أنّ المرجع في حجّية الظواهر هو بناء العقلاء، ومعلوم أنّالعقلاء لا يعذرون العبد الذي خالف ظاهر كلام مولاه إذا اعتذر عن المخالفةبعدم الظنّ بالوفاق، أو بحصول الظنّ بالخلاف، فالظنّ بالخلاف غير قادح فيحجّية الظواهر، فضلاً عن عدم الظنّ بالوفاق.
القول الرابع: ما أفاده المحقّق القمّي قدسسره (1) من التفصيل بين من قصد إفهامهبالكلام وبين من لم يقصد، فيكون الكلام حجّة للأوّل دون الثاني. ووجهالفرق بينهما هو: أنّ عدم إرادة الظاهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه لابدّ وأنيكون لأحد احتمالين:
أحدهما: غفلة المتكلّم عن نصب القرينة على إرادته خلاف الظاهر.
ثانيهما: غفلة المخاطب المقصود بالإفهام وعدم التفاته إلى القرينة المنصوبةمن قبل المتكلّم، ومن الواضح أنّ العقلاء لا يعتنون بكلا الاحتمالين؛ لأصالةعدم الخطأ والغفلة.
وأمّا بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه فليس احتمال إرادة خلاف الظاهرمنحصراً بهذين الأمرين كي يرفع بأصالة عدم الخطأ والغفلة، بل من الممكنأن تكون بين المتكلّم ومن قصد إفهامه قرينة حاليّة أو مقاليّة على إرادةخلاف الظاهر واختفت على من لم يقصد إفهامه، وليس هنا أصل عقلائييرفع هذا الاحتمال.
- (1) اُنظر: قوانين الاُصول 1: 398 ـ 403، وج2: 103.