(صفحه14)
وهكذا في جريان الأمارات والاُصول العمليّة في الشبهات الموضوعيّة،وإن كان الشاكّ هو المقلّد ـ مثلاً ـ ولكن لابدّ من بيان حكم الشكّ من ناحيةالمجتهد، مثل: الحكم بجريان الاستصحاب عند الشكّ في البقاء، وجريان أصالةالبراءة في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة، ونحو ذلك، فإنّ جميعها من شأنالمجتهد.
والمهمّ هنا البحث في الجهة الثانية، وقد عرفت من الشيخ الأعظم قدسسره التقسيمالثلاثي، وأنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعيّ فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه أوالقطع أو الظنّ، والظاهر منها الشكّ الشخصي والقطع والظنّ الشخصيّين.
واُشكل عليه: أوّلاً: بأنّ الظنّ الشخصي إذا لم يكن معتبراً ـ مثل حصوله منطريق الشهرة الفتوائيّة ـ فهو في حكم الشكّ ومجرى الاُصول العمليّة. وهذالإشكال وارد عليه؛ لعدم تقييده بالظنّ الشخصي المعتبر.
وثانياً: أنّ الأمارة المعتبرة قد تقوم عند المجتهد ولم يحصل له القطع ولا الظنّالشخصي، مع أنّه لابدّ له من الحكم بمفاده؛ إذ لا ضرورة لإفادة الخبر الواحدالصحيح السند للظنّ الشخصي، فيرد على هذا التقسيم إشكال التداخلوالاختلاط.
وقال المحقّق النائيني قدسسره (1) في مقام الدفاع عنه: إنّ بيانه قدسسره هنا بيان تمهيديولتوجيه الأذهان إلى التقسيم إجمالاً، وبيان المسائل بالتفصيل في محلّه، ولتكون للعناوين المذكورة خصوصيّة عنده.
ولكنّه ليس بتامّ؛ إذ التقسيم في أوّل الكتاب يكون بمنزلة الأساس للبحث،ولابدّ من ملاحظة جميع خصوصيّاته.
ولا يخفى أنّ الملتفت إليه في كلام الشيخ قدسسره هو الحكم الواقعي وإن لم يقيّده
(صفحه 15)
به ولكن يتحقّق في العبارة ما هو شاهد عليه، وهو أنّ مجرى الاُصول العمليّةهو الشكّ في الحكم الواقعي، فإنّ بعد جريانها واستفادة الحكم الظاهري منهلا يبقى شكّ في البين، ومعلوم أنّ الحكم الواقعي هو الذي يصلح لتعلّق الشكّبه بخلاف الحكم الظاهري.
ولكنّ الملتفت إليه عند صاحب الكفاية قدسسره أعمّ من الحكمالواقعي والظاهري، ولذا عدل من التقسيم الثلاثي إلى الثنائي، وقال:إنّ البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى حكم شرعي ـ سواءكان واقعيّاً أم ظاهريّاً ـ فإمّا أن يحصل له القطع بذلك الحكم أو لا،ويدخل الحكم المستفاد من الأمارات والاُصول الشرعيّة حتّى الظنّالانسدادي على القول بالكشف في الحكم الذي يقطع به، وإن لم يحصل لهالقطع به فلابدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ لوحصل له، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومة، وإلاّ فالرجوع إلىالاُصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير على تفصيل يأتي في محلّهإن شاء اللّه تعالى.
وأشكل عليه الإمام قدسسره (1): أوّلاً بأنّ خروج الظنّ الانسدادي على الحكومةعن دائرة القطع ليس بتامّ؛ إذ لو كان مراده من القطع العلم التفصيلي فلا يبقىمجال للبحث عن العلم الإجمالي في مبحث القطع، وإن كان مراده منه الأعمّ منالعلم التفصيلي والإجمالي فلا يصحّ عدّ الظنّ الانسدادي من القسم الثاني، فإنّأساس دليل الانسداد هو العلم الإجمالي.
وثانياً: أنّ الأولى من كلامه جعل الملتفت إليه عنوان الوظيفة حتّى لا يبقىمجال للتقسيم؛ إذ المجتهد قاطع بالوظيفة دائماً حتّى في مورد جريان الاُصول
(صفحه16)
العقليّة كالبراءة والتخيير.
ويرد عليه إشكال آخر، هو: أنّه يستفاد من كلامه قدسسره في بحث الظنونالخاصّة أنّ الشارع في باب الأمارات لا يعمل عملاً سوى جعل الحجّيّة لهبمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة، ولا يكون فيها من جعل الحكم الظاهري أثر ولخبر، إلاّ في مورد جريان أصالة الطهارة والحلّيّة والاستصحاب على القولبجعل الحكم المماثل، وفي مورد أصالة البراءة لا يكون سوى رفع الحكمحسب حديث الرفع، فكيف يمكن أن يكون الملتفت إليه أعمّ من الحكمالواقعي والظاهري؟!
ثمّ قال صاحب الكفاية قدسسره (1): وإن أبيت التقسيم إلاّ عن كونه ثلاثيّاً،فالأولى أن يقال: إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني إمّا أنيقوم عنده طريق معتبر أو لا؛ لئلاّ يتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام،ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقرّرة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع ومن يقومعنده الطريق.
والملتفت إليه عنده على هذا التقسيم هو الحكم الواقعي، والترتيب بينالحالات والطوليّة أيضاً ملحوظ عنده كما يدلّ عليه ظاهر كلامه، وعلى هذيرد عليه أنّ المقصود من الطريق المعتبر هل هو الطريق المعتبر الشرعي أوالأعمّ منه ومن الطريق المعتبر العقلي، وعلى الأوّل لا يشمل الأقسام للظنّالانسدادي على الحكومة؛ إذ هو ليس بقطع ولا من الطريق المعتبر الشرعي،ولا من الاُصول العمليّة.
إن قلت: إنّه داخل في دائرة القطع والعلم الإجمالي.
قلت: إنّ بعد فرض الترتّب والطوليّة في التقسيم يكون معناه تقدّم الظنّ
(صفحه 17)
الانسدادي على نحو الحكومة على الطرق والأمارات الشرعيّة والاُصولالعمليّة الشرعيّة، مع أنّه قدسسره صرّح في التقسيم الثنائي بتأخّر رتبة الظنّالانسدادي عنها.
وعلى الثاني يدخل الظنّ الانسدادي في القسم الثاني، ولازم ذلك تقدّمهعلى الاُصول الشرعيّة من الاستصحاب وأصالة الطهارة وأصالة الحلّية، معأنّه ليس كذلك كما صرّح في التقسيم الثنائي بتقدّم الاُصول الشرعيّة التيتكون من القطع عليه، فلا يصحّ تثليث الأقسام بهذه الكيفيّة.
ويصحّ تثليث الأقسام بعد كون الملتفت إليه هو الحكم الواقعي بعد حفظأمرين:
الأوّل: أن يكون المراد من الطريق المعتبر هو خصوص الطريق المعتبرالشرعي.
الثاني: أن لا يلاحظ الترتّب والطوليّة بين الأقسام في التقسيم، فإنّه لايتقوّمعليه، كما أنّه لا يتحقّق في التقسيمات مثل: الحيوان إمّا ناطق وإمّا غير ناطق،والإنسان إمّا أبيض وإمّا أسود، ونحو ذلك، فنقول: المكلّف إمّا يحصل له القطعبالحكم، وإمّا يقوم عنده طريق معتبر، وإمّا يكون مرجعه الاُصول العمليّةعند الشكّ في الحكم، وهذا التقسيم خالٍ من الإشكال، كما ذكره المحقّقالحائري قدسسره إجمالاً.
إذا عرفت ذلك فلنشرع في أحكام القطع وأقسامه ومسائله، قال الشيخالأعظم الأنصاري قدسسره (1): «لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مدام موجوداً؛ لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع، وليس طريقيّته قابلة لجعل الشارعإثباتاً أو نفياً».
(صفحه18)
ولابدّ قبل الخوض في البحث من ملاحظة العناوين المربوطة بالمسألة مثل:عنوان وجوب متابعة القطع، وعنوان حجّيّته بمعنى المنجّزيّة عند إصابة الواقع،والمعذّريّة عند عدم إصابة الواقع، وعنوان طريقيّته وكاشفيّته، من حيثكونهما ذاتيّتين له أو مجعولتين.
والظاهر من وجوب المتابعة في كلام الشيخ قدسسره هو الوجوب واللزومالشرعي، ولابدّ هنا من التأمّل والدقّة، بأنّ القطع من صفات ذات الإضافةوقائم بنفس الإنسان، كما أنّ الشكّ والظنّ يكون كذلك، ومعلوم أنّ مرادالشيخ قدسسره ليس لزوم متابعة القطع من حيث إنّه صفة نفسانيّة وقائم بالنفس، بلمراده أنّ متعلّق القطع لازم المتابعة، فالقاطع بوجوب صلاة الجمعة يلزمهإتيانها في الخارج، كما هو الظاهر من كلامه، وعلى هذا لا يصحّ أن يكون المرادمن لزوم المتابعة اللزوم الشرعي؛ إذ لا يتحقّق هنا حكمان وجوبيّان حتّىيكون أحدهما متعلّقاً بصلاة الجمعة والآخر متعلّقاً بمتابعته ليترتّب على مخالفةالقطع عقابان، فلا محالة يكون اللزوم هنا لزوماً عقليّاً، ولا يرتبط بالشرع.
وأمّا عنوان الحجّيّة فيكون بمعنى المنجّزيّة في صورة مطابقة القطع للواقع،والمعذّريّة في صورة مخالفته له. وقد مرّ عن صاحب الكفاية أنّ للحكم أربعةمراحل: 1ـ الاقتضاء. 2ـ الإنشاء. 3ـ الفعليّة. 4ـ التنجّز. يعني استحقاقالعقوبة على مخالفته، وقلنا: إنّ التنجّز ليس من مراحل الحكم، بل هو منآثاره؛ بأنّ القطع إذا تعلّق بوجوب صلاة الجمعة وكانت في الواقع أيضاً كذلكيحكم العقل بترتّب استحقاق العقوبة على مخالفته، وهكذا في المعذّريّة. وليخفى أنّ إسناد المنجّزيّة والمعذّريّة إلى القطع لا يخلو عن مسامحة وتجوّز، فإنّبحسب الواقع إيصال التكليف إلى المكلّف وعدم إيصاله إليه يكون منجّزومعذّراً.