(صفحه 9)
المسألة الاُصوليّة على أحكام القطع، وهي أنّ كلّ مسألة وقعت نتيجتها فيطريق استنباط الحكم الفرعي فهي مسألة اُصوليّة، وإذا ثبت حجّيّة ظاهرالكتاب ـ مثلاً ـ تكون نتيجتها إثبات وجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ فإنّه ممّدلّ عليه ظاهر الكتاب، كقولنا: «وجوب صلاة الجمعة ممّا دلّ عليه ظاهرالكتاب» ـ أي الحجّة ـ و«كلّما دلّ عليه ظاهر الكتاب فهو واجب» فصلاةالجمعة واجبة.
والحاصل: أنّ المسألة الاُصوليّة تقع في سلسلة علل استكشاف الحكمالفقهي، وتكون مقدّمة وطريقاً لاستكشافه، وهذه الخصوصيّة لا تتحقّق فيمسائل القطع، فإنّ متعلّق القطع إمّا يكون نفس الحكم الفقهي كالقطع بوجوبصلاة الجمعة ـ مثلاً ـ وإمّا يكون موضوعه وهو ملازم للقطع بحكمه، فمع القطعبوجوب صلاة الجمعة وخمريّة المائع لا مجال لوقوعه في طريق استنباط الحكمالفرعي، بل يبحث أنّ مخالفة هذا القطع يوجب استحقاق العقوبة أم لا؟ فمسألةالقطع خارجة عن مسائل الفنّ، والشاهد على ذلك عدم تعرّض القدماء لها فيكتبهم الاُصوليّة.
ولكنّ اُستاذنا المرحوم السيّد البروجردي قدسسره (1) كان مصرّاً على أنّ مسائلالقطع من المباحث الاُصوليّة، وحاصل كلامه قدسسره : أنّ موضوع علم الاُصولعبارة عن الحجّة في الفقه، وهي بمعنى ما يصحّ أن يحتجّ به المولى في مقابلالعبد، وبالعكس، لا بمعنى الحجّة التي يبحث عنها في المنطق، أي ما يطلق علىالقياس، وموضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، أي بلا واسطةفي العروض؛ بمعنى عدم احتياج حمل العرض على المعروض إلى المسامحةوالتجوّز، كما هو الحال في الواسطة في الثبوت، ومع ذلك يكون قولنا: «ظاهر
(صفحه10)
الكتاب حجّة» مسألة اُصوليّة.
ولا يقال: إنّ الحجّة هنا جعلت المحمول لا الموضوع، فإنّا نقول: إنّ معناه فيالواقع أنّ الحجّة في الفقه كانت متعيّنة في ضمن ظاهر الكتاب أم لا؟ وهلتتّحد الحجّة في الفقه مع ظاهر الكتاب مثل اتّحاد الكلّي الطبيعي مع مصاديقهأم لا؟ فإذا كان ظاهر الكتاب حجّة بهذا التقريب من المسائل الاُصوليّة تكونمسألة القطع أيضاً كذلك، فإنّ أوّل ما يبحث فيها أنّ القطع حجّة أم لا،فلافرق بينهما من هذه الناحية، وعدم تعرّض القدماء لها مستند إلى محدوديّةأحكام القطع ووضوحها.
والتحقيق: أنّ على فرض كون البحث عن تعيّن العوارض تحتاج جميعالمسائل إلى القلب والانقلاب؛ إذ لابدّ من جعل الحجّة فيها موضوعوالموضوعات محمولاً؛ بأنّ الحجّة هل تتّحد مع القطع أو ظاهر الكتاب بحيثيكونان من مصاديق الحجّة أم لا؟ وهذا لا ينطبق مع العناوين المعنونة في علمالاُصول، فالقطع خارج عن مسائل علم الاُصول؛ لعدم انطباق الضابطة عليه،كما يستفاد من كلام صاحب الكفاية في موارد متعدّدة.
وأمّا أشبهيّة بعض أحكام القطع بمسائل الكلام فهي مبتنية على كونتعريف علم الكلام عبارة عمّا يبحث فيه عن ذات الباري وصفاته وأفعاله،وما يحسن أن يتحقّق منه وما يقبح أن يتحقّق عنه ولكن في محدودة الإسلام؛إذ يبحث في القطع عمّا يترتّب على فعل المقطوع به أو تركه من استحقاقالثواب والعقاب، وأمّا على القول بكونه عبارة عمّا يبحث فيه عن عوارضذاتيّة الوجود بما هو هو في محدودة الإسلام فلا شباهة بينهما أصلاً، كما يستفادمن كلام اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره في حاشيته على الكفاية.
وأمّا المناسبة بين بعض مسائل القطع وبيان الأمارات المعتبرة فيتحقّق من
(صفحه 11)
جهات: منها: أنّ حجّية الأمارات منحصرة بغير القاطع؛ إذ لا أثر للأمارة فيمقابل القطع، ومنها: أنّ البحث فيهما يدور مدار الحجّيّة بمعنى المنجّزيّةوالمعذريّة.
قال الشيخ الأعظم الأنصاري(1) بعد الفراغ عن المقدّمة: فاعلم أنّ المكلّفإذا التفت إلى حكم شرعي، فإمّا أن يحصل له الشكّ فيه أو القطع أو الظنّ.
ولابدّ من البحث في هذه العبارة من جهتين:
الاُولى: في نفس المقسم من حيث إنّ المقسم هل هو المكلّف أم لا؟ وأنّالمقصود منه خصوص المجتهد أو الأعمّ منه؟
الجهة الثانية: في التقسيم من حيث الثلاثيّة أو الثنائية، وأشار صاحبالكفاية قدسسره إلى البحث عن الجهة الاُولى في حاشيته على الرسائل(2) بأنّ عنوانالمكلّف ظاهر فيمن توجّه إليه التكليف بالفعل، ولذا لا يشمل جميع الأقسام؛إذ التكليف بالنسبة إلى الشاكّ لا يكون فعليّاً؛ لأنّ الشكّ مانع عن فعليّةالتكليف، ولذا لابدّ من العدول عن عبارة الشيخ قدسسره والقول بأنّ البالغ الذيوضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم واقعي أو ظاهري؛ بمعنى خروجه عنمحدودة رفع القلم ووروده في دائرة وضع القلم وإنشاء التكليف، سواء كانالتكليف بالنسبة إليه فعليّاً أم لا.
والتحقيق: أنّ هذا البيان ليس بصحيح، فإنّ عنوان المكلّف وإن كان ظاهرفي المكلّف الفعلي، ولكن ليس معناه فعليّة التكليف حتّى بالنسبة إلى هذهالعناوين الثلاثة، بل معناه أنّ بعد الورود في دائرة التكليف يصير بعضالتكاليف بالنسبة إليه فعليّاً لا جميع التكاليف، ويتحقّق بالنسبة إلى البعض
(صفحه12)
الآخر الحالات المذكورة.
وما هو المهمّ في البحث أنّ المكلّف هنا مختصّ بالمجتهد أو أعمّ منه، ولقرينة في كلام الشيخ قدسسره لتعيين أحدهما، ويستفاد من عبارة صاحب الكفاية قدسسره اختصاصه بالمجتهد بلحاظ قوله: متعلّق به أو بمقلّديه، كما قال به المحقّقالنائيني قدسسره (1).
ومعلوم أنّ القطع حجّة سواء كان بالنسبة إلى الحكم أو الموضوع، وإن كانمخالفاً لنظر مقلّد القاطع، فإنّ حجّيّة فتواه له تكون بعنوان الأمارة، وقدعرفت أنّ العمل بها وظيفة غير القاطع، وحجّيّة القطع أمر ذاتي وبديهيّ وليتوقّف على أمر المفتي، كما أنّ أصل التقليد ومراجعة الجاهل بالعالم يكونكذلك، فعموميّة دائرة القطع وشموله للمجتهد والمقلّد لا شكّ فيه، وهكذالاُصول العمليّة والأمارات الجارية في الموضوعات، مثل استصحاب نجاسةالثوب وقيام البيّنة على خمريّة مائع لا يرتبط بالمجتهد، إلاّ من جهة قوله بحجّيّةالاستصحاب والأمارة.
إنّما الإشكال في الأمارات الدالّة على أصل الحكم والاُصول العمليّةالجارية في الشبهات الحكميّة، والمحقّق النائيني قدسسره قائل بعدم ارتباطها بالمقلّدالعامّي؛ لعدم اطّلاعه بقيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ وعدمعلمه بحجّيّة الخبر الواحد ـ مثلاً ـ بعد اختلاف العلماء فيها، واختلاف القائلينبالحجّيّة بأنّ خبر العادل حجّة أو الثقة، أو موثوق به، وعدم علمه بالخبرالمعارض، وتشخيصه عن غير المعارض، مع أنّه لابدّ في جريان الاُصولالعمليّة في الشبهات الحكميّة من الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به، فلمحالة يكون المكلّف المقسم عبارة عن المجتهد.
(صفحه 13)
وأنكره المحقّق العراقي قدسسره (1) بأنّ المجتهد إذا انتهى نظره بحسب الروايات بأنّالماء الكرّ إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة يصير نجساً، ولكنّه لاحظخارجاً أنّ الماء المذكور زال تغيّره من قبل نفسه بعد مدّة، فهو حينئذٍ صارشاكّاً ببقاء نجاسته وعدمه، فإن كان قائلاً بحجّيّة الاستصحاب يجريالاستصحاب ويحكم بنجاسته.
وأمّا المقلّد في أصل الحكم بالنجاسة يقول به حسب فتوى المجتهد، ولكنّهبعد زوال تغيّر الماء من قبل نفسه أيضاً يشكّ في بقاء النجاسة ثمّ يرجع إلىالمجتهد ويسأل منه بأنّ هذا هل وقع مورد تعرّض الروايات نفياً أو إثباتاً أملا؟ ويقول المجتهد بعدم تعرّضها له وكونه مشكوكاً عنده، وحينئذٍ يجريالاستصحاب نيابة عن المقلّد، فلا دليل لاختصاص جريان «لا تنقض اليقينبالشكّ» في الشبهات الحكميّة بالمجتهد، فالمكلّف المقسم لا يختصّ بالمجتهد، بليعمّ المجتهد والعامّي معاً.
والتحقيق: أنّ التفكيك بين المراحل الثلاثة ـ أي مرحلة نجاسة الماء بالتغيّر،ومرحلة المشكوكيّة بزوال التغيّر، ومرحلة جريان الاستصحاب ـ من حيثالرجوع إلى المجتهد ليس بصحيح، وهذا أمر بديهيّ، مع أنّ السيرة العمليةللمتشرّعة في الرجوع إلى المجتهد ليس كما ذكره؛ إذ المقلّد يراجع الرسالةالعمليّة التي ذكر فيها خلاصة الأحكام والنتائج، مع أنّ النيابة أمرٌ مخالفٌللقاعدة ويحتاج إلى الدليل، ولايتحقّق هنا دليل، فلابدّ من القول باختصاصالمقسم بالمجتهد؛ إذ القطع وإن كان حجّة للقاطع، ولكنّه خارج عن مسائل علمالاُصول، وتعميمه للمقلّد والمجتهد لا يقتضي تعميم ما هو من الاُصول ـ أيتعميم المقسم لهما ـ بعد أنّ التقسيم يكون بلحاظ الاُصوليّة.