(صفحه 153)
أنّ عدم حجّية الإجماع ليس كعدم حجّية الكتاب والسنّة، ولايوجب تعطيلحكم من الأحكام، فإن لم يكن لنا دليل نقول بعدم حجّيته.
وثانياً: أنّ اللطف على تقدير تسليم وجوبه عليه سبحانه إنّما يقتضي إرسالالرسل وإنزال الكتب ونصب الإمام عليهالسلام وإيصال الأحكام إلى الناس، كمتحقّقت جميع هذه الاُمور، ولا دليل لوجوبه بالكيفيّة المذكورة على الإمام عليهالسلام حتّى نستكشف من عدم بيان الإمام موافقة نظره عليهالسلام .
الوجه الرابع: أن يكون منشأ الإجماع هو الحدس أيضاً، وذلك من باب أنّاتّفاقهم في مسألة يكشف عن وجود دليل معتبر استندوا فيها إليه، بعد عدمموافقة نظرهم للقاعدة والاُصول العمليّة، ولكن هذا الدليل لم يصل إلينا، وإللأخذنا به.
وفيه: أنّه كيف يمكن فقدان دليل معتبر استند إليه جميع الفقهاء، مع وجودالكتب الروائية الكثيرة؟!
على أنّه لا يستكشف من إجماعهم اعتبار الدليل عندنا أيضاً؛ إذ يمكناستنادهم إلى دليل لا نرى تماميّته واعتباره من حيث السند أو الدلالة،والشاهد عليه شهرة نجاسة ماء البئر عند المتقدّمين، وطهارته عند المتأخّرينبعد التأمّل في الروايات مثل قوله عليهالسلام : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء»(1).
الوجه الخامس: أن يكون منشأ القطع هو الحدس أيضاً، وذلك من جهةالملازمة العاديّة بين اتّفاق علماء الأعصار والأمصار ـ على اختلاف مبانيهم وبين رأي المعصوم عليهالسلام ، ومن المعلوم أنّ العادة تحكم بأنّ اتّفاق المرؤوسين علىأمر لا ينفك عن رضا الرئيس ورأيه.
واستشكل عليه المحقّق النائيني قدسسره (2) بأنّ اتّفاق المرؤوسين على أمر إن كان
- (1) الوسائل 1: 170، الباب 14 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.
- (2) فوائد الاُصول 3: 150 ـ 151.
(صفحه154)
نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهّم الملازمة العاديّة بين إجماع المرؤوسينورضا الرئيس مجال، وأمّا إذا وقع الاتّفاق بلا تواطؤ منهم على ذلك فهو ممّا ليلازم عادةً رضا الرئيس، ولا يمكن دعوى الملازمة.
ولايخفى غرابة هذا الكلام، فإنّ إنكار الملازمة العاديّة في صورة التواطؤأولى منه في صورة عدم التواطؤ؛ إذ الاتّفاق مع عدم التواطؤ يكشف عنوجود ملاك وسبب في البين، وأمّا مع التواطؤ فيحتمل أن يكون الاتّفاقناشئاً عن أمر غير ما هو الواقع.
وكان لاُستاذنا السيّد المرحوم البروجردي قدسسره (1) هنا كلام جيّد، وهو: أنّالمسائل الفقهيّة على ثلاثة أقسام: قسم منها ما يعبّر عنها بالمسائل الفقهيّةالأصليّة كما نرى الإشارة إليها في بعض الروايات كقوله عليهالسلام : «إنّما علينا أننلقي الاُصول وعليكم التفريع».
وقسم منها: عبارة عن المسائل الفقهيّة الفرعية، وهي ما يستنبطه الفقيه منالإطلاقات والعمومات.
وقسم منها: ما يكون مبتنياً على المسائل العقليّة، مثل: الملازمة بين وجوبذي المقدّمة ووجوب المقدّمة.
ثمّ قال: إنّ الملازمة العاديّة المذكورة تكون قابلة للانطباق في المسائلالفقهيّة الأصليّة فقط، مثل: بطلان العول والتعصيب في مسألة الإرث، فيكوناتّفاق علماء الأعصار والأمصار كاشفاً عن رضا المعصوم عليهالسلام في مثل هذهالمسألة، فاتّصاف الإجماع بالحجّية يكون محدوداً في هذه المحدودة، بخلافالمسائل الفقهيّة الفرعيّة أو العقليّة؛ إذ لم يتحقّق من المعصوم عليهالسلام في هاتين
(صفحه 155)
المسألتين بيان أصلاً، فكيف يستكشف من الإجماع نظره عليهالسلام ؟!
وأمّا الإجماع المنقول فقد ينقل بالتواتر فهو ملحق بالإجماع المحصل، وقدينقل بالخبر الواحد كما إذا نقل العلاّمة الحلّي قدسسره الإجماع على حكم معيّن، وقدوقع البحث في حجّيته، بمعنى أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد هل يكونمشمولاً لأدلّة حجّية الخبر الواحد أم لا؟
ومن هنا كان المناسب تأخير هذا البحث عن مبحث حجّية الخبر الواحدلترتّبه عليه، ولكن تعرّضنا له في المقام تبعاً للعظام.
فنقول: إنّ أهمّ دليل على حجّية الخبر الواحد هو بناء العقلاء، ومن المعلومأنّ بناءهم لمّا كان دليلاً لبّياً فلابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منه، والقدر المتيقّنفي بنائهم على الأخذ بالخبر والعمل به فيما إذا كان مشتملاً على خصوصيّتين:
الاُولى: أن يكون إخباراً عن حسّ ومشاهدة، كالإخبار عن مجيء زيدمن السفر ونزول المطر، لا إخباراً عن حدس، إلاّ أن يكون الأمر الحدسيقريباً من الحسّ كالإخبار عن سخاوة زيد وشجاعته، وذلك لأنّ حجّية الخبرمتوقّفة على ثبوت أمرين: أحدهما: عدم تعمّد الكذب، والثاني: عدم الخطأ فيالنقل، والأوّل وإن كان مدفوعاً بعدالة المخبر أو وثاقته، سواء كان الخبر عنحسّ أو عن حدس، إلاّ أنّ احتمال الخطأ في النقل فيما إذا كان عن حدس فمّملا دافع له؛ إذ لم يثبت بناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ فيالاُمور الحدسيّة، فأصالة عدم الخطأ التي استقرّ عليها بناء العقلاء إنّما تجري فيالاُمور الحسّية أو القريبة من الحسّ.
الثانية: أن يكون المنقول بالخبر أمراً متعارفاً حسب العادة كما في الأمثلةالسابقة، وأمّا الإخبار عن الاُمور الغريبة غير المتعارفة فلم يحرز استقراربنائهم على الأخذ به وإن كان عن حسّ، بل الظاهر عدم استقرار بنائهم على
(صفحه156)
ذلك، إلاّ إذا انضمّت إليه قرائن وشواهد خارجيّة تؤكّد صحّته.
فتحصّل: أنّ القدر المتيقّن هو الإخبار عن حسّ أو قريب منه عن أمرعادي متعارف، وأمّا الإخبار عن حدس أو عن حسّ ولكن غير متعارففلا دليل على شمول بناء العقلاء لهما.
وعلى هذا لا يشمل هذا الدليل للإجماع المنقول، فإنّ نقل رأي المعصوم عليهالسلام في الإجماع إمّا أن يكون عن حدس وإمّا أن يكون عن حسّ غير متعارف،وكلاهما كماترى.
توضيح ذلك: أنّ المقصود من نقل الإجماع قد يكون نقل السبب وقد يكوننقل المسبّب، أو السبب والمسبّب معاً، والمراد بالسبب هنا فتاوى العلماءوأقوالهم الكاشفة عن قول المعصوم عليهالسلام ، والمسبّب هو نفس قوله عليهالسلام .
أمّا نقل السبب فلا إشكال في حجّيته إذا كان نظر المنقول إليه موافقاً معنظر الناقل في ملاك الإجماع؛ لأنّه إخبار عن حسّ وعن أمر متعارف أيضاً،فتشمله أدلّة حجّية الخبر الواحد؛ لكونه كاشفاً عن قول المعصوم عليهالسلام عندالمنقول إليه، وأمّا إذا كان المنقول جزء السبب وأقلّ من المقدار الكافي فيالكشف فأيضاً يكون النقل حجّة فيما إذا انضمّ إليه ما يكمل السبب من الأقوالوالقرائن، فيكون المجموع كاشفاً عن قول المعصوم عليهالسلام .
وأورد المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) بأنّه في موارد نقل جزء السبب إن اُريدإثبات الحجّية بلحاظ المدلول المطابقي للنقل فليس صحيحاً؛ لأنّه ليس حكمشرعيّاً ولا موضوعاً له، وإن اُريد إثبات الحجّية له بلحاظ المدلول الالتزاميفالمفروض عدم الملازمة فليس له مدلول التزامي.
وفيه: أنّ المدلول الالتزامي ثابت في موارد نقل تمام السبب ونقل جزء
- (1) نهاية الدراية 3: 190.
(صفحه 157)
السبب معاً، إلاّ أنّ المدلول الالتزامي في الأوّل فعليٌّ كما هو واضح، وفي الثانيشرطي، أي إذا انضمّ إليه الجزء الآخر كان كاشفاً عن قول المعصوم عليهالسلام ،ولايخفى كفاية هذا المدلول الالتزامي في دفع اللغوية وثبوت الأثر للحجّية.
وأمّا نقل السبب والمسبّب معاً أو المسبّب فقط فلا وجه لحجّيته مطلقاً.
أمّا الإجماع المبتنى على الحدس في كشف المسبّب بوجوهه الثلاثة فالأمرفيه واضح؛ لأنّه ليس إخباراً عن الحسّ ليشمله دليل حجّية الخبر.
وأمّا الإجماع التشرّفي فلأنّه أمر خارج عن العادة، فلا يشمله أيضاً دليلحجّية الخبر وإن كان حسّياً.
وأمّا الإجماع الدخولي فهو أيضاً خارج عن العادة بلحاظ زمان الغيبة، فليشمله دليل الحجّيّة.