(صفحه192)
والمحرّمات وإنذار قومهم بها بعد الرجوع إليهم.
وقال بعض ـ على ما نقل عن ابن عبّاس في شأن نزول الآية ـ : إنّ بعد عدمشركة المنافقين في غزوة تبوك، وبناء المسلمين بالشركة في كلّ غزوة وسريّة،وبقاء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وحده في غزوة بالمدينة، فنزلت الآية بهذه المناسبة، وأنّاللازم بقاء عدّة للتفقّه وإنذار المجاهدين بعد الرجوع إليهم لعلّهم يحذرون.
ولكنّه مخالف لظاهر الآية وذلك أوّلاً: أنّ التفقّه في الآية وظيفة النافرين،وثانياً: أنّ قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» لا يناسب المجاهدين بل يناسبالكفّار، ولذا نرى في القرآن في مقام تشويق موسى عليهالسلام بالذهاب إلى فرعون،والأمر بموعظته قوله تعالى: «لَّعَلَّهُو يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(1).
وأمّا الوجه الثالث فلأنّه يكفي في عدم لغويّة وجوب الإنذار كونه مفيدللعلم في بعض الأحيان، فيختصّ وجوب العمل بقول المنذر بما إذا أفاد العلم.
وأمّا الأمر الثاني فقد ذكر لإثبات إطلاق وجوب التحذّر أمران:
الأوّل: ما أفاده المحقّق النائيني قدسسره (2) من أنّ المراد من الجمع في قوله تعالى:«لِّيَتَفَقَّهُواْ» وفي قوله «لِيُنذِرُواْ» وفي قوله «ليحذروا»، هو الجمع الاستغراقيالأفرادي، لا المجموعي الارتباطي؛ لوضوح أنّ المكلّف بالتفقّه هو كلّ فرد فردمن أفراد الطائفة النافرين أو المتخلّفين ـ على الوجهين في تفسير الآية ـ وليسالمراد تفقّه مجموع الطائفة من حيث المجموع، كما أنّه ليس المراد إنذار المجموعمن حيث المجموع، بل المراد أن يتفقّه كلّ واحد من النافرين أو المتخلّفينوينذر كلّ واحد منهم.
وبالجملة، كما أنّ المراد من الجمع في قوله تعالى: «يَحْذَرُونَ» هو الجمع
- (2) فوائد الاُصول 3: 186 ـ 187.
(صفحه 193)
الاستغراقي الأفرادي، كذلك المراد من الجمع في قوله تعالى «لِّيَتَفَقَّهُواْ»و«لِيُنذِرُواْ» هو الجمع الأفرادي.
وإذا عرفت أنّ المراد من الجمع هو العام الاستغراقي فلا يبقى مجال للريبفي إطلاق وجوب التحذّر، حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل؛ إذ أيّإطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قولالمنذر وعدمه.
وفيه: أنّ المراد من أقوائيّة الإطلاق إن كان إثبات إطلاق وجوب التحذّرمن طريق العموم فهو صحيح بعد إثبات هذا المعنى في نظائر هذه المسألة، وإنكان المراد إثباته من طريق أصالة الإطلاق فلابدّ من تماميّة مقدّمات الحكمة،منها إحراز كون المولى في مقام البيان، ولا دليل لنا لكون الآية في مقام بيانالإطلاق.
الثاني: ما أفاده بعض الأعلام قدسسره (1) من أنّ الأصل في كلّ كلام أن يكون فيمقام البيان لاستقرار بناء العقلاء على ذلك ما لم تظهر قرينة على خلافه،والظاهر من الآية المباركة كونها واردة لبيان وظيفة جميع المسلمين المكلّفين،وأنّه يجب على طائفة منهم التفقّه والإنذار وعلى غيرهم الحذر والقبول، فكمأنّ إطلاقها يقتضي وجوب الإنذار ولو مع عدم حصول العلم للمنذَرـ بالفتح ـ بمطابقة كلام المنذِر ـ بالكسر ـ للواقع، كذلك يقتضي وجوب الحذرأيضاً في هذا الفرض.
وفيه: سلّمنا أنّ الأصل في كلّ كلام أن يكون في مقام البيان، بمعنى عدمكونه في مقام الإهمال والإجمال، ولكنّه بمعنى كونه في مقام البيان من جميعالجهات والأبعاد ليس قابلاً للالتزام، ومعلوم أنّ الآية الشريفة تكون في مقام
- (1) مصباح الاُصول 2: 184 ـ 185.
(صفحه194)
إيجاب نفر الطائفة لا إيجاب التحذّر، بل الدقّة تقتضي أنّها تكون في مقام نفيالنفر العمومي من المؤمنين وبعث طائفة منهم إلى النفر، فلا دلالة لها علىوجوب الحذر فضلاً عن وجوبه بنحو مطلق.
ولايخفى أنّ في باب حجّية الخبر كان المثبتون بصدد إثبات وجوب مطابقةعمل المكلّف على وفق خبر الواحد، مع أنّ المناسب للإنذار هو التحذّرالنفساني كما ذكرناه، وهذا يؤيّد ما ذكرناه في تفسير الآية من نزولها في موردالنفر إلى الجهاد وإنذار المجاهدين أقوامهم المشركين إذا رجعوا إليهم ليحصلالتحذّر النفساني لهم.
والشاهد على عدم دلالة الآية الشريفة على وجوب التحذّر مطلقاً: أوّلاً:أنّه لابدّ للمنذَر ـ بالفتح ـ من إحراز أنّ الإنذار يكون في محدودة تفقّه المنذِرـ بالكسر ـ لا على ما تقتضيه إرادته النفسانيّة، ومعناه حصول العلم للمنذرـ بالفتح ـ مع أنّ ما يوجب المناقشة في مسألة حجّية خبر الواحد هو احتمالكذب الراوي.
وثانياً: أنّ وجوب الحذر عند الإنذار منوط بحصول العلم لاستشهادالإمام عليهالسلام بتلك الآية على وجوب النفر لمعرفة الإمام وإنذار المتخلّفين بما رأوهمن آثار الإمامة، ومن الواضح عدم ثبوت الإمامة إلاّ بالعلم، كما في صحيحةعبد الأعلى، قال: سألت أبا عبداللّه عليهالسلام عن قول العامّة إنّ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال:«من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة؟» قال عليهالسلام : «حقّ واللّه»، قلت: فإنّإماماً هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك، قال عليهالسلام :«لا يسعه، أنّ الإمام إذا مات وقعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد، وحقّالنفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم، إنّ اللّه عزّوجلّ يقول: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّفِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَـآلـءِفَةٌ...» إلخ(1)».
(صفحه 195)
هذا تمام الكلام في آية النفر، وقد عرفت عدم تماميّة الاستدلال بها علىحجّية خبر الواحد.
الآية الثالثة: قوله تعالى: «وَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىآ إِلَيْهِمْفَسْـءَلُوآاْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1).
وتقريب الاستدلال بها هو أنّ وجوب السؤال يدلّ على وجوب القبولبالملازمة، وإلاّ يلزم لغويّة وجوب السؤال، وبالإطلاق لصورة عدم حصولالعلم من الجواب تثبت حجّية خبر الواحد.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ مورد الآية هي مسألة النبوّة، ومن الواضح أنّ خبرالواحد لا يكون حجّة في الاُصول الاعتقاديّة التي يكون الواجب فيها تحصيلالعلم، ولكن التحقيق: أنّ مسألة النبوّة تكون من المسائل الاعتقاديّة لمن كانغرضه التبعيّة لنبيّ، لا لمن كان غرضه التحقيق في حالات الأنبياء السالفة،وعلى هذا لا يحتاج إلى العلم؛ إذ لا يترتّب على إثباته أثر لنا، ومعلوم أنّ موردالآية هو لزوم التحقيق والتفحّص في حالات الأنبياء السالفة لإثبات أنّ نزولالوحي إلى الإنسان ليس من الاُمور الممتنعة، ولا دليل لاحتياج هذا أيضاً إلىالعلم.
وثانياً: أنّ المستفاد من الآية بلحاظ اشتراط وجوب السؤال على عدمالعلم هو كون الجواب مفيداً للعلم ورافعاً لعدمه، فكيف يكون الجواب حجّةفي صورة عدم إفادته للعلم حتّى يستفاد منه حجّية خبر الواحد؟!
وأجاب عن هذا الإشكال المحقّق الأصفهاني قدسسره (2) بأنّ الظاهر من الآية هوالأمر بالسؤال ليعلموا بسبب الجواب لا بأمر زائد عليه، وهذا لا يتمّ إلاّ مع
- (1) الكافي 1: 378، الحديث 2.
- (3) رسالة الاجتهاد والتقليد: 3.
(صفحه196)
كون الجواب مفيداً للعلم تعبّداً، وعليه فيستفاد من الآية وجوب قبول قولالمجيب وترتيب الأثر عليه؛ لأنّه علم تعبّدي.
وفيه: أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ المراد بالعلم الذي علّق وجوب السؤال علىعدمه هو العلم الواقعي الحقيقي، فتكون الغاية من الأمر بالسؤال إنّما هو تحقّقهذا النوع من العلم لا العلم التعبّدي.
وثانياً: أنّ مسألة التعبّد من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فرع قبول نبوّته صلىاللهعليهوآله فكيف يصحّأمره صلىاللهعليهوآله بالسؤال عن أهل الذكر وجعله صلىاللهعليهوآله الجواب في عالم التعبّد علملإثبات نبوّته صلىاللهعليهوآله ؟! وهذا الكلام لا ينبغي أن يصدر من مثله. هذا تمام الكلامفي الاستدلال بالكتاب الكريم.
الدليل الثاني ـ السنّة:
وقد استدلّ على حجّية خبر الواحد بروايات كثيرة رتّبها الشيخ الأعظمالأنصاري قدسسره (1) على طوائف أربع:
الطائفة الاُولى: الأخبار الواردة في علاج الخبرين المتعارضين، فإنّ الظاهرأنّ حجّية الأخبار في نفسها مع قطع النظر عن ابتلائها بالمعارض كانتمعلومة ومرتكزة في الأذهان، ولذا وقع السؤال عن حكم ما تعارض منها.
الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين وأخذالحديث منهم، فإنّه لو لم يكن الخبر حجّة لم يكن معنى للإرجاع إليهم والأمربأخذ الحديث منهم.
الطائفة الثالثة: الأخبار الآمرة بالرجوع إلى ثقات الرواة وعدم جوازالتشكيك في رواياتهم، فإنّه لولا حجّية الخبر لم يكن وجه للحكم بالرجوعإليهم وعدم جواز التشكيك في رواياتهم.