(صفحه 195)
هذا تمام الكلام في آية النفر، وقد عرفت عدم تماميّة الاستدلال بها علىحجّية خبر الواحد.
الآية الثالثة: قوله تعالى: «وَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىآ إِلَيْهِمْفَسْـءَلُوآاْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1).
وتقريب الاستدلال بها هو أنّ وجوب السؤال يدلّ على وجوب القبولبالملازمة، وإلاّ يلزم لغويّة وجوب السؤال، وبالإطلاق لصورة عدم حصولالعلم من الجواب تثبت حجّية خبر الواحد.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ مورد الآية هي مسألة النبوّة، ومن الواضح أنّ خبرالواحد لا يكون حجّة في الاُصول الاعتقاديّة التي يكون الواجب فيها تحصيلالعلم، ولكن التحقيق: أنّ مسألة النبوّة تكون من المسائل الاعتقاديّة لمن كانغرضه التبعيّة لنبيّ، لا لمن كان غرضه التحقيق في حالات الأنبياء السالفة،وعلى هذا لا يحتاج إلى العلم؛ إذ لا يترتّب على إثباته أثر لنا، ومعلوم أنّ موردالآية هو لزوم التحقيق والتفحّص في حالات الأنبياء السالفة لإثبات أنّ نزولالوحي إلى الإنسان ليس من الاُمور الممتنعة، ولا دليل لاحتياج هذا أيضاً إلىالعلم.
وثانياً: أنّ المستفاد من الآية بلحاظ اشتراط وجوب السؤال على عدمالعلم هو كون الجواب مفيداً للعلم ورافعاً لعدمه، فكيف يكون الجواب حجّةفي صورة عدم إفادته للعلم حتّى يستفاد منه حجّية خبر الواحد؟!
وأجاب عن هذا الإشكال المحقّق الأصفهاني قدسسره (2) بأنّ الظاهر من الآية هوالأمر بالسؤال ليعلموا بسبب الجواب لا بأمر زائد عليه، وهذا لا يتمّ إلاّ مع
- (1) الكافي 1: 378، الحديث 2.
- (3) رسالة الاجتهاد والتقليد: 3.
(صفحه196)
كون الجواب مفيداً للعلم تعبّداً، وعليه فيستفاد من الآية وجوب قبول قولالمجيب وترتيب الأثر عليه؛ لأنّه علم تعبّدي.
وفيه: أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ المراد بالعلم الذي علّق وجوب السؤال علىعدمه هو العلم الواقعي الحقيقي، فتكون الغاية من الأمر بالسؤال إنّما هو تحقّقهذا النوع من العلم لا العلم التعبّدي.
وثانياً: أنّ مسألة التعبّد من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فرع قبول نبوّته صلىاللهعليهوآله فكيف يصحّأمره صلىاللهعليهوآله بالسؤال عن أهل الذكر وجعله صلىاللهعليهوآله الجواب في عالم التعبّد علملإثبات نبوّته صلىاللهعليهوآله ؟! وهذا الكلام لا ينبغي أن يصدر من مثله. هذا تمام الكلامفي الاستدلال بالكتاب الكريم.
الدليل الثاني ـ السنّة:
وقد استدلّ على حجّية خبر الواحد بروايات كثيرة رتّبها الشيخ الأعظمالأنصاري قدسسره (1) على طوائف أربع:
الطائفة الاُولى: الأخبار الواردة في علاج الخبرين المتعارضين، فإنّ الظاهرأنّ حجّية الأخبار في نفسها مع قطع النظر عن ابتلائها بالمعارض كانتمعلومة ومرتكزة في الأذهان، ولذا وقع السؤال عن حكم ما تعارض منها.
الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين وأخذالحديث منهم، فإنّه لو لم يكن الخبر حجّة لم يكن معنى للإرجاع إليهم والأمربأخذ الحديث منهم.
الطائفة الثالثة: الأخبار الآمرة بالرجوع إلى ثقات الرواة وعدم جوازالتشكيك في رواياتهم، فإنّه لولا حجّية الخبر لم يكن وجه للحكم بالرجوعإليهم وعدم جواز التشكيك في رواياتهم.
(صفحه 197)
الطائفة الرابعة: الأخبار الآمرة بضبط الروايات وحفظها واستماعهوالاهتمام بشأنها، فإنّه لولا حجّية خبر الواحد لم يكن معنى لكلّ ذلك.
ثمّ لا يخفى أنّ صحّة الاستدلال بهذه الأخبار متوقّفة على ثبوت تواترهلتكون مقطوعة الصدور؛ إذ لا يمكن الاستدلال على حجّية خبر الواحدبالأخبار الآحاد؛ لاستلزامه الدور.
والتواتر على أقسام ثلاثة:
الأوّل ـ التواتر اللفظي: وهو اتّفاق جماعة يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذبعلى نقل خبر بلفظه، وذلك كتواتر ألفاظ القرآن.
الثاني ـ التواتر المعنوي: وهو اتّفاقهم كذلك على نقل مضمون خاصّ معالاختلاف في اللفظ والتعبير، وذلك كالأخبار الحاكية عن حالات أميرالمؤمنين عليّ عليهالسلام في حروبه، فإنّ تلك الأخبار متّفقة في دلالتها علىشجاعته عليهالسلام وإن كانت مختلفة في الألفاظ.
الثالث ـ التواتر الإجمالي: وهو اتّفاقهم كذلك على نقل روايات يعلمبصدورها إجمالاً مع عدم اشتمالها على مضمون واحد، وذلك كالأخبار المودعةفي الكتب الأربعة، فإنّها وإن كانت مختلفة بحسب اللفظ والمعنى إلاّ أنّه يعلمبصدور جملة منها إجمالاً، وإن لم تكن أشخاصها معيّنة خارجاً.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدسسره (1) أنكر التواتر الإجمالي بدعوى أنّ الأخبار إذبلغت من الكثرة ما بلغت، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقاً على نقلهفهو راجع إلى التواتر المعنوي، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منهبعد جواز كذب كلّ واحد منها في حدّ نفسه وعدم ارتباط بعضه ببعض،فالحقّ هو انحصار التواتر في القسمين الأوّلين لا غير.
- (1) أجود التقريرات 2: 113.
(صفحه198)
وجوابه: أوّلاً: بالنقض فإنّه يتحقّق المعلوم بالإجمال في موارد العلم الإجماليمع أنّ جريان احتمال الكذب في كلّ واحد من أطرافه لا شبهة فيه، كما إذعلمنا إجمالاً بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة في يوم الجمعة ـ مثلاً ـ مع جرياناحتمال عدم الوجوب في كلّ واحد منهما.
وثانياً: بالحلّ، وهو أنّه يحتمل أن يكون مراده قدسسره من هذا الكلام أنّ التواترالإجمالي على قسمين: قسم منه يرجع إلى التواتر المعنوي فيما إذا تحقّق القدرالجامع والمشترك بين الأخبار، وقسم آخر منه لا يترتّب عليه أثر، كما فيما لميتحقّق القدر المتيقّن بين الأخبار.
هذا نهاية توجيه كلامه قدسسره ولكنّه أيضاً قابل للجواب بأنّه يمكن أن يتحقّقالتواتر الإجمالي في موارد لا يتحقّق القدر الجامع أصلاً، كما إذا دلّت عدّةروايات على أنّ دفن الكافر حرام، وعدّة اُخرى على أنّ صلاة الجمعة واجبة،ونعلم إجمالاً بصدور بعضها عن المعصوم، ولكن لا نعلم أنّه في العدّة الدالّةعلى الوجوب أو في العدّة الدالّة على الحرمة، وأثر التواتر الإجمالي هوالاحتياط في كلا الموردين، وإن لم يتحقّق التواتر الإجمالي يكون المرجع أصالةالبراءة في كليهما كما لا يخفى، واعترف به في كتاب فوائد الاُصول.
نعم، إن كان التواتر الإجمالي في الأخبار الدالّة على وجوب شيء واحدوحرمته يكون المرجع أصالة التخيير، ولا يترتّب عليه أثر.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ هذه الأخبار من الطوائف الأربعة لا تكونمتواترة لفظاً ولا معنى إن كان المقصود منه اتّحاد المعنى سعةً وضيقاً وإن كانالمقصود منه تحقّق القدر الجامع، وإن كانت الأخبار مختلفة من حيث السعةوالضيق فلا يبعد القول بتواترها معنىً، وأمّا تواترها إجمالاً فلا يكون قابلللإنكار. وعلى كلا التقديرين لابدّ من الاكتفاء بالقدر المتيقّن ممّا تدلّ عليه
(صفحه 199)
الأخبار بالألفاظ المختلفة، والالتزام بحجّية ما هو أخصّ مضموناً منها.
ثمّ اختلف العلماء فيما هو الأخصّ مضموناً منها.
قال المحقّق النائيني قدسسره (1): إنّ أخصّ تلك الأخبار مضموناً هو الأخبار الدالّةعلى جواز العمل بخبر الثقة.
وفيه: أنّ مفاد هذه الأخبار مختلف، فإنّ ظاهر بعضها كفاية مجرّد الوثاقة فيالراوي، كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : «نعم»، بعد قول السائل: أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟(2) وظاهر بعضها اعتبار كونه مع ذلك إماميّاً،كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويهعنّا ثقاتنا».(3)
فإنّ إضافة الثقة إليهم عليهم السلام ظاهرة في اعتبار كون الراوي إماميّاً،وظاهر بعضها اعتبار كونه مع ذلك عادلاً، كما هو الظاهر من بعض الأخبارالعلاجيّة من قوله عليهالسلام : «خذ بما يقول به أعدلهما»(4)، فإنّ ترجيح الأعدل دليلعلى مفروغيّة اعتبار أصل العدالة. وعليه فكيف يمكن القول بأنّ أخصّ تلكالأخبار هو جواز العمل بخبر الثقة؟
وقال بعض: إنّ القدر المتيقّن من الأخبار هو خبر العدل الإمامي الثقة، فليستفاد من هذه الأخبار إلاّ حجّية الخبر الصحيح الأعلائي.
ويستفاد من كلام اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (5): «أنّ القدر المتيقّنمن تلك الأخبار هو الخبر الحاكي عن الإمام عليهالسلام بلا واسطة مع كون
- (1) أجود التقريرات 2: 113 ـ 114.
- (2) الوسائل 27: 147، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.
- (3) المصدر السابق: 150، الحديث 40.
- (4) الوسائل 27: 106، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.
- (5) تهذيب الاُصول 2: 131.