(صفحه 203)
الموجودة في الكتب المعتبرة بحكم العقل.
وفيه: أنّ هذا الوجه ـ على تقدير تماميّته ـ لا يثبت إلاّ لزوم الأخذ بالأخبارمن باب الاحتياط، لا من باب الحجّية التي هي محلّ الكلام، بحيث يكونمخصّصاً للعمومات ومقيّداً للمطلقات.
الوجه الثاني: إنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، ولاسيّما الواجباتالضروريّة، مثل: الصلاة والصوم والحجّ والزكاة وغيرها، ومعلوم أنّ أجزاءهذه الواجبات وشرائطها وموانعها لا تثبت إلاّ بالأخبار الموجودة في الكتبالمعتبرة، ولو لم يكن الخبر الواحد حجّة وجاز ترك العمل به لخرجت هذهالواجبات عن حقائقها، وهذا ينافي كون تلك الواجبات ضروريّة وبقاءالتكليف بها إلى يوم القيامة.
وفيه: أنّ مقتضى هذا الوجه أيضاً هو وجوب العمل بكلّ خبر دلّ علىالجزئيّة والشرطيّة من باب حكم العقل بلزوم الاحتياط للعلم الإجمالي، لمن باب أنّه حجّة يخصّص به العمومات ويقيّد به المطلقات كما هو محلّالبحث.
الوجه الثالث: ما حكي عن المحقّق صاحب الحاشية على المعالم قدسسره (1) من أنّنعلم بلزوم الرجوع إلى السنّة والعمل بها؛ لحديث الثقلين الثابت تواتره عندالعامّة والخاصّة، وحينئذٍ فإن أمكن إحراز السنّة بالعلم فهو، وإلاّ فلابدّ منالتنزّل إلى الظنّ والعمل بما يظنّ صدوره منهم عليهمالسلام .
وفيه: إن كان المقصود من السنّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريرهفالوجوب الرجوع إليها وإن كان ثابتاً بالأدلّة القطعيّة بلا ريب، إلاّ أنّ هذالمعنى لا يرتبط بما هو محلّ الكلام من حجّية خبر الواحد الحاكي عن السنّة.
- (1) هداية المسترشدين 3: 373 ـ 374.
(صفحه204)
وإن كان المقصود منها الأخبار الحاكية عن السنّة ففيه: أنّ وجوب الرجوعإليها والعمل بها هو أوّل الكلام، إلاّ أن يدّعى العلم الإجمالي بصدور كثيرمنها، أو يدّعى العلم الإجمالي بوجود أحكام كثيرة فعليّة في مضامينها بحيثيلزم من إهمالها الخروج عن الدين، فعلى الأوّل يرجع هذا الوجه إلى أوّلالوجوه كما هو واضح، وعلى الثاني يرجع إلى دليل الانسداد، فهذا الوجه ليسدليلاً مستقلاًّ على ما عرفت.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1) في مقام الدفاع عن صاحب الحاشية قدسسره : إنّملاك هذا الوجه هو وجوب الرجوع إلى أخبار الآحاد الحاكية عن السنّة،وليس ملاكه العلم الإجمالي بصدور جملة منها ليرجع إلى الوجه الأوّل، ولالعلم الإجمالي بثبوت التكاليف في موردها ليرجع إلى دليل الانسداد، فيكونهذا الوجه دليلاً مستقلاًّ بحدّ ذاته.
وفيه: أنّ وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية لا يعقل أن يكون بلا سبب،وحينئذٍ إمّا أن يرجع إلى الوجه الأوّل أو إلى دليل الانسداد.
وما يمكن أن يقال في مقام توجيه كلام صاحب الحاشية قدسسره : إنّ المراد منالسنّة هي السنّة المحكيّة ـ أي قول المعصوم وفعله وتقريره ـ كما يثبت بحديثالثقلين التمسّك بالكتاب ولزوم الأخذ به، كذلك يثبت به التمسّك بالسنّة ولزومالأخذ بها.
هذا في صورة العلم بالسنّة المحكيّة، وأمّا في صورة عدم العلم بها، فتصلالنوبة إلى المظنّة، فالعمل بالسنّة الحاكية يكون بلحاظ الظنّ بكونها قولالمعصوم.
ولكنّه أيضاً قابل للمناقشة؛ إذ لا دليل لإثبات السنّة بالظنّ، ومن الممكن
- (1) كفاية الاُصول 2: 107.
(صفحه 205)
أن يقال بعدم إثباتها إلاّ بالتواتر نظير الكتاب، مع أنّ المدّعى هو حجّية خبرالواحد مطلقاً، سواء أفاد الظنّ أم لا، ولازم هذا الاستدلال هو حجّية خبرالواحد في صورة حصول الظنّ الشخصي بأنّ هذا فعل المعصوم أو قوله أوتقريره، فلا يكون هذا الدليل قابلاً للقبول.
الدليل الخامس ـ السيرة العقلائية:
فنقول: لاشكّ ولا شبهة في قيام السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقةوالاتّكال عليه في مقام الاحتجاج، بل على ذلك يدور رحى نظامهمومعاشهم، ولكنّ الاستفادة من هذه السيرة في الاُمور الشرعيّة والتكاليفالإلهيّة تحتاج إلى تحقّق أمرين:
الأوّل: كونها مستمرّة إلى زمان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله والأئمّة المعصومين عليهمالسلام ، ومنالمعلوم أنّ نوع المسائل العقلائيّة ليس من الاُمور الحادثة، ومنها العمل بخبرالثقة، فهذه السيرة كانت مستمرّة إلى زمان المعصومين عليهمالسلام .
الأمر الثاني: عدم وقوعها أحياناً أو في الخفاء، بل كانت من الاُمورالمتداولة بين العقلاء وكانت بمنظر ومسمع من الشارع، وكان متمكّناً من الردععنها على فرض مخالفته لها، وهذا أيضاً ممّا لاشكّ فيه، ومع ذلك لم ينقل عنهالردع، وهذا يكشف كشفاً قطعيّاً عن رضا الشارع وموافقته له.
ولايصحّ القول بكون الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم رادعاً منالشارع عن السيرة؛ إذ لابدّ من كون الردع عن مثل هذه المسألة المتداولة بينالعقلاء دليلاً خاصّاً وصريحاً، ولايصحّ الاكتفاء بدليل عامّ، كما أنّه لا يصحّردع القياس والربا ـ مثلاً ـ بمثل ذلك، بل يحتاج إلى قوله عليهالسلام : «السنّة لو قيستمحق الدين»،(1) وقوله تعالى: «وَحَرَّمَ الرِّبَواْ»(2)، كذلك لا يصحّ ردع العمل
- (1) الوسائل 27: 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
(صفحه206)
بخبر الثقة بمثل عموم الآيات الناهية.
فيكفي في استكشاف رضا الشارع وإمضاءه للسيرة العقلائيّة عدم الردع معالتمكّن منه، ولا يلزم التصريح بالإمضاء والرضا مع تحقّق الشواهد والقرائنلإمضاء المعصومين عليهمالسلام .
منها: اهتمام الأئمّة عليهمالسلام بنقل الرواة وأمرهم بالسؤال عمّا لا يكون موردابتلائهم كثيراً مّا بداعي نقل ما يسمعون عنهم للغائبين وضبطه في الجوامعالروائيّة، فلو لم يكن خبر الواحد حجّة لكان هذا الاهتمام لغواً، بل هذا يكونإمضاء عملي للسيرة العقلائيّة عنهم عليهمالسلام .
ومنها: الروايات الواردة في مباحثة بعض أئمّتنا عليهمالسلام مع بعض علماء العامّة،كما قال الصادق عليهالسلام لأبي حنيفة: «أنت فقيه العراق؟» قال: نعم، قال: «فبِمَتفتيهم؟» قال: بكتاب اللّه وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله (1).
وقال بعضهم في جواب الإمام عليهالسلام : بما بلغني عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله . ولا نرى فيأيّ مورد مخالفة الأئمّة عليهمالسلام مع السيرة العقلائيّة وردعهم عنها بأنّ ما بلغنا عنرسول اللّه صلىاللهعليهوآله بخبر الواحد ليس بحجّة، بل سكت الإمام عليهالسلام عن هذه الناحية،وقال لأبي حنيفة: «تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته؟» وهذا أقوى شاهد على تأييدبناء العقلاء على العمل بخبر الواحد.
ومنها: ما ورد من الأخبار في جواز العمل بخبر الواحد من الطوائفالأربعة، فإنّها إمضاء لما عليه العقلاء من العمل بخبر الثقة، وظاهرها أنّ حجّيةخبر الثقة كان أمراً مركوزاً ومفروغاً عنه في الأذهان، كما يرشدنا قوله عليهالسلام :«نعم»، بعد قول السائل: أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟
- (2) الوسائل 27: 47، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
(صفحه 207)
فيكون الدليل لحجّية خبر الواحد بناء العقلاء المؤيّد من المعصومين عليهمالسلام فيمحيط الشرع والتكاليف الإلهيّة.
ولايخفى أنّ المقصود من الثقة كون الراوي ثقة عند أهل الخبرة والمطّلعينلا كونه ثقة عند مخبر له، ولا يلزم أن يكون مخبر له عالماً بوثاقته. نعم، فيصورة العلم بعدم وثاقته لا أثر لخبر من يكون ثقة عند أهل الخبرة.
ومعلوم أنّ توثيق أهل الخبرة قد يكون توثيقاً شخصيّاً كقولهم بأنّالسكوني ثقة ـ مثلاً ـ وقد يكون توثيقاً عامّاً كقول محمّد بن قولويه في مقدّمةكتاب كامل الزيارات: «إنّ كلّ من وقع في أسناد الروايات التي ذكرناها فيهذا الكتاب يكون من ثقات أصحابنا»، وهكذا قول عليّ بن إبراهيم القمّي فيتفسيره.
ولكنّ اعتبار توثيق العامّ محدود بصورة عدم قدح الخاصّ في مقابله، ومنالمعلوم أنّ خبر الثقة في الموضوعات لا يكون حجّة عند الشارع؛ لردعه عنالعمل به فيها بجعل البيّنة حجّة فيها، ومعناه عدم اعتبار خبر الثقة فيها، وإليكون اعتبار التعدّد والعدالة لغواً، فخبر الواحد ليس بحجّة في الموضوعاتالخارجيّة، بل المرجع فيها هو البيّنة أو الاستصحاب أو قول صاحب البيت أوذي اليد.
ثمّ استدلّ في المقام على حجيّته مطلق الظنّ بأدلّة، منها: دليل الانسدادوكانت له مقدّمات، والأهمّ منها انسداد باب العلم والعلمي بالنسبة إلىالتكاليف الإلهيّة، وتماميّة هذه المقدّمة متوقّف على القول بعدم حجّية خبرالواحد، فيكون دليل الانسداد بعد إثبات حجّيته مسألة فرضيّة، فلا داعي إلىبحثه.