(صفحه22)
وفي مفاد هيئة «لا تفعل» أنّه عبارة عن الزجر الاعتباري في مقابل البعثوالزجر التكويني، وهكذا في سائر الأحكام التكليفيّة، ولا يتحقّق التضادّ فيالاُمور الاعتباريّة، والشاهد على ذلك عدم إمكان اجتماع المتضادّين ـ كالسوادوالبياض ـ في آنٍ واحد ولو من ناحية اثنين.
وأمّا في باب الأوامر والنواهي فيمكن أن تكون طبيعة واحدة بالنسبة إلىمكلّف حراماً وبالنسبة إلى آخر واجبة، فكيف يتحقّق التضادّ بين الأحكام؟!
إن قلت: إن لم يتحقّق التضاد بين الأحكام يصحّ للمولى أن يقول لعبده:«صلِّ في هذه الساعة» و«لا تصلّ فيها»، أي تحريم طبيعة واحدة ووجوبهبالنسبة إلى شخص واحد، مع أنّه مستحيل بالبداهة.
قلنا: إنّ منشأ الاستحالة هنا اجتماع الحبّ والبغض، وهما أمران تكوينيّانومن مبادئ البعث والزجر الاعتباري، فإنّ البعث الاعتباري ناشٍ عن حبّالمولى بتحقّق المأمور به في الخارج، كما أنّ الزجر الاعتباري ناشٍ عن بعضهبتحقّقه فيه، ولا يعقل أن يكون شيء واحد في آنٍ واحد محبوباً ومبغوضاً له.
وأشكل اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) على ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره بأنّ هذالاجتماع نظير اجتماع الحكم الواقعي والظاهري في مورد الشكّ إذا كانمشكوك الطهارة بحسب الواقع نجساً، فإنّه طاهر بمقتضى قاعدة الطهارةونجس بحسب الحكم الأوّلي، فلماذا لا تتحقّق هنا مسألة اجتماع الضدّين؟ ففيمنحن فيه أيضاً يمكن أن تكون المسألة بهذه الكيفيّة، بأن يقول الشارع: «إذقطعت بوجوب صلاة الجمعة لا تكون صلاة الجمعة عليك واجبة» بدونتحقّق التضادّ أصلاً.
نعم، يكون جعل الحكم الظاهري امتناناً وتسهيلاً على المكلّف الشاكّ
(صفحه 23)
بدون استلزام اللغوية، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ قول الشارع بعدم وجوبصلاة الجمعة على القاطع به لغوٌ، وصدوره قبيحٌ عن الحكيم، ولكنّ اللّغويّةمسألة واجتماع الضدّين مسألة اُخرى، وسيأتي تفصيل هذا الكلام إن شاء اللّه.
وقد مرّ في مسألة كاشفيّة القطع أنّه بالنسبة إلى المعلوم بالعرض قد يكونمصيباً وكاشفاً عنه، وقد لا يكون كذلك، فبالنسبة إلى المعلوم بالعرض تكونكاشفيّته تامّة، وعرفت القول بعينيّة القطع مع المعلوم بالذات، وعلى هذلا معنى للكاشفيّة المتقوّمة على اثنينيّة، وأمّا على القول بعدم العينيّة وتحقّقالشيئين في النفس أحدهما كاشفاً والآخر مكشوفاً، فيصحّ البحث في إمكانجعل الكاشفيّة للقطع من الشارع وعدمه.
والظاهر أنّ طريقيّة القطع إلى الصورة النفسانيّة تكوينيّة ولايمكن للشارعبما هو شارع الدخالة في الاُمور التكوينيّة، لا نفياً ولا إثباتاً. فهو نظير إيجادالشمس مشرقة وإيجاد النار حارّة في عدم الارتباط بعالم التشريع. هذا تمامالكلام في المسألة الاُولى من مسائل القطع.
(صفحه24)
التجرّي
المسألة الثانية
في التجرّي
ولابدّ قبل الخوض في هذا البحث من ذكر اُمور بعنوان المقدّمة:
الأوّل: في معنى التجرّي والانقياد بحسب الاصطلاح، والتجرّي: ارتكاب ميعتقد كونه حراماً مع عدم حرمته بحسب الواقع، وترك ما يعتقد كونه واجبمع عدم كونه كذلك واقعاً، والانقياد: موافقة ما يعتقد كونه تكليفاً لزوميّاً، معأنّه ليس كذلك بحسب الواقع في مقابل الإطاعة والعصيان، مع أنّهما بحسباللغة أعمّ منهما.
الأمر الثاني: أنّ التجرّي لا يختصّ بالقطع وإن كان هو مصداقه البيّن، كما إذارتكب ما يقطع بحرمته أو خالف ما يقطع بوجوبه، مع أنّهما لا يكونان كذلكبحسب الواقع، ولكن ينطبق في مورد الأمارات والاُصول العمليّة أيضاً، كما إذدلّ خبر الواحد المعتبر على وجوب صلاة الجمعة، وتركها من قام عنده الخبر،مع أنّها بحسب الواقع ليست بواجبة، فيصدق هنا عنوان التجرّي، إلاّ أنّ هذبناء على القول بحجّيّة الأمارات من باب الطريقيّة، كما هو الحقّ والمشهور عندالإماميّة، وأمّا على القول بحجّيّتها من باب السببيّة ـ بمعنى إحداث الحكممطابقاً لمؤدّى الأمارة بالنسبة إلى من قام عنده الخبر مثلاً ـ فيصدق العصيانعلى مخالفته، فإنّ قيام الخبر على وجوب صلاة الجمعة يجعلها واجبة بالنسبة
(صفحه 25)
إليه وهو قد خالفها، فيتحقّق العصيان.
وأمّا في مورد الأمارات، مثل: قيام الاستصحاب على وجوب صلاةالجمعة وعدم إتيان المكلّف بما يكون واجباً بمقتضى الاستصحاب، فلا يصدقهنا عنوان التجرّي؛ إذ المقصود من الشكّ في «لا تنقض اليقين بالشكّ» هوالشكّ الفعلي الاستقراري، لا الشكّ المستمرّ إلى الأبد، فلابدّ من الالتزام بجعلالحكم المماثل والظاهري في مورد جريان الاستصحاب، ومعلوم أنّ مخالفةالحكم الظاهري اللزومي معصية، بلا فرق بين مخالفته للواقع ومطابقته.
وهذا بخلاف قاعدة الطهارة والحلّية لجعلهما تسهيلاً وامتناناً على العباد فيمشكوك الطهارة والحلّية، وليس لهما لزوم الموافقة والمخالفة.
الأمر الثالث: أنّ القطع قد يكون طريقيّاً وقد يكون موضوعيّاً، والقطعالطريقي ما لم يؤخذ في لسان الدليل وموضوع الحكم، كما إذا قال الشارع:«لاتشرب الخمر» وحصل القطع للمكلّف بخمريّة مائع في الخارج، والقطعالموضوعي: ما اُخذ في موضوع الحكم ولسان الدليل بعنوان تمام الموضوع أوجزء الموضوع، كقوله: «لاتشرب مقطوع الخمريّة»، مثلاً: إذا شربه القاطع، ليقال له: إنّه متجرّي، بل يقال له: إنّه عاصٍ؛ لتحقّق موضوع حكم الشارع وإنلم يكن بحسب الواقع خمراً.
إذا عرفت هذا فيقع البحث في التجرّي ـ بمعنى نيّة المعصية وارتكاب ما لتكون معصية واقعاً ـ مرّة في ترتّب استحقاق العقوبة عليه وعدمه، واُخرى فيحرمته وعدمها، وثالثةً في قبحه وعدمه، ولا إشكال في كون البحث علىالأوّل كلاميّاً، كما لا إشكال في كونه بحثاً فقهيّاً على الثاني، وأمّا على الثالثفجعل عنوان البحث: أنّ التجرّي هل يكون قبيحاً أم لا؟ فهل ينطبق عليهعنوان المسألة الاُصوليّة أم لا؟ لقائل أن يقول باُصوليّته؛ إذ البحث إن انتهى
(صفحه26)
إلى قبح التجرّي فيمكن بضميمة قاعدة الملازمة ـ أي كلّ ما حكم العقلبقبحه حكم الشرع بحرمته ـ إليه استنباط الحكم الفقهي، وهو أنّ التجرّي منالمحرّمات في الشريعة، ومعلوم أنّ هذا ضابطة لاُصوليّة المسألة.
وجوابه: أوّلاً: أنّ ملاك الاُصوليّة أن تقع نتيجة البحث في كبرىالقياس، كقولنا: «صلاة الجمعة ما دلّ خبر الواحد المعتبر على وجوبه»،و«كلّ ما دلّ الخبر على وجوبه فهو واجب»، فصلاة الجمعة بما أنّها دلّ الخبرعلى وجوبها تكون واجبة، بخلاف ما نحن فيه، فإنّا نقول: «التجرّي قبيحعقلاً»، و«كلّ ما حكم العقل بقبحه فهو حرام شرعاً»، فالتجرّي حرام شرعاً،وأنتترى وقوع مسألة الملازمة في كبرى القياس ووقوع مسألة التجرّي فيصغرى القياس.
وثانياً: أنّ جريان قاعدة الملازمة محدودٌ بالنسبة إلى الحُسن والقُبحالواقعين في رتبة متقدّمة على الحكم الشرعي وسلسلة علله، نظير حكم العقلبقبح الظلم، واستكشاف حرمته شرعاً من قاعدة الملازمة، وإذا كان حكمالعقل في رتبة متأخّرة عن حكم الشرع فلا مجال لقاعدة الملازمة، نظير حكمالعقل بقبح المعصية، فإنّه متأخّر عن حكم الشرع بحرمة شرب الخمر مثلاً،وهكذا التجرّي متأخّر عن حكم الشرع بحرمة شرب الخمر والقطع بخمريّةمائع وشربه بنيّة المعصيّة، فصدق التجرّي متوقّف على ذلك، ولذا لا محلّلجريان قاعدة الملازمة هنا، فلا يمكن أن يكون التجرّي بهذه الكيفيّة منمسائل علم الاُصول.
ولكنّ المحقّق النائيني قدسسره (1) ذكر طريقاً آخر لجعل المسألة اُصوليّة، وهو أنّالإطلاقات والعمومات نظير «لا تشرب الخمر» ـ مثلاً ـ هل يشمل مقطوع
- (1) فوائد الاُصول 3: 37 ـ 39.