(صفحه246)
الجزئيّة والشرطيّة ليستا من آثار ترك الجزء وترك الشرط حتّى يكون الرفععند الإكراه على تركهما بلحاظها، وإنّما هي من آثار نفس الجزء والشرط،والمفروض عدم تعلّق الإكراه بهما.
ومن هنا يتّضح الفرق بين ما نحن فيه وبين نسيان الجزء والشرط، فإنّمتعلّق الإكراه هو تركهما، ولا يوجد أثر شرعي للترك كي يتمّ الرفع بلحاظه،وأمّا متعلّق النسيان فهو نفس الجزء والشرط بما لهما من الآثار الشرعيّة منالجزئيّة والشرطيّة.
والحاصل: أنّه لابدّ من التماس دليل آخر لتصحيح العبادة فيما نحن فيهكحديث لا تعاد، ولا فرق فيما ذكرناه من الأحكام بين الإكراه والاضطرار.
هذا كلّه في البحث عن النسيان والإكراه والاضطرار بلحاظ الأحكامالتكليفيّة.
الجهة الرابعة: في البحث عن الفقرات الثلاث بلحظ الأحكام الوضعيّة،والكلام فيها يقع في مرحلتين: الاُولى: في الأسباب، والثانية في المسبّبات:
أمّا في المرحلة الاُولى فالصحيح أنّ البيع الإكراهي لا يكون مؤثّراً فيالتمليك والتملّك استناداً إلى حديث الرفع، وهكذا في البيع النسياني، بخلافالبيع الاضطراري فإنّ الحكم ببطلانه خلاف الامتنان، فلابدّ من الحكمبصحّته.
ولكنّ المحقّق النائيني قدسسره (1) ذهب إلى أنّ وقوع النسيان أو الإكراه أوالاضطرار في الأسباب لا يقتضي تأثيرها في المسبّب، ولا تندرج في حديثالرفع؛ لما تقدّم في باب الأجزاء والشرائط من أنّ حديث الرفع لا يتكفّلتنزيل الفاقد منزلة الواجد ولا يثبت أمراً لم يكن، فلو اضطرّ إلى إيقاع العقد
- (1) فوائد الاُصول 3: 365 ـ 357.
(صفحه 247)
بالفارسيّة أو اُكره عليه أو نسي العربيّة كان العقد باطلاً، بناءً على اشتراطالعربيّة في العقد، فإنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي، وليسللعقد الفارسي أثر يصحّ رفعه بلحاظ رفع أثره، وشرطيّة العربيّة ليست هيالمنسيّة حتّى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطيّة.
أقول: أمّا بالنسبة إلى نسيان السبب فالصحيح هو التفصيل بين ما إذا تعلّقبأصل السبب، أو ما يعدّ أمراً مقوّماً للعقد عرفاً، وبين ما إذا تعلّق بشرط منالشرائط الشرعيّة التي لا تعدّ عرفاً مقوّماً للعقد كما في اشتراط العربيّة مثلاً، أوبشرط عقلائي كذلك كما في اشتراط تقدّم الإيجاب على القبول، فإنّه فيالصورة الاُولى لا إشكال في بطلان المعاملة وعدم إمكان تصحيحها بحديثالرفع؛ إذ لا عقد هناك أصلاً حتّى يتّصف بالصحّة بإجراء حديث الرفع، وأمّفي الصورة الثانية فلا إشكال في تصحيح العقد بحديث الرفع؛ إذ أصل العقدمحقّق عرفاً غير أنّه فاقد لشرط من الشروط الشرعيّة أو العقلائيّة غيرالدخيلة في قوام العقد وماهيّته، وبما أنّ حديث الرفع حاكم على أدلّةالشرائط، فترتفع شرطيّة الشرط مع النسيان ويكون العقد صحيحاً.
لا يقال: إنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي، فكيف يحكمبصحّة العقد؟
لأنّا نقول: إنّ النسيان لم يتعلّق بالعقد الفارسي حتّى يكون مرفوعاً، وإنّمتعلّق بالشرط، أعني كون العقد عربيّاً، وقد قلنا مراراً: إنّ معنى رفع الشرطرفع شرطيّته والاكتفاء بالعقد الفاقد له.
وأمّا بالنسبة إلى الإكراه فالصحيح أيضاً هو التفصيل بين ما إذا تعلّقالإكراه بترك إيجاد السبب أو ترك الجزء والشرط، فيحكم ببطلان المعاملة؛ إذلا عقد هناك في الأوّل حتّى يتّصف بالصحّة، وأنّ ترك الجزء والشرط بما هو
(صفحه248)
ليس موضوعاً للأثر حتّى يتمّ الرفع بلحاظه في الثاني، وبين ما إذا تعلّق بإيجادالمانع فيحكم بصحّة المعاملة؛ إذ يصحّ التمسّك بحديث الرفع لرفع مانعيّة المانعفي حال الإكراه. وهكذا الحكم في باب الاضطرار.
وأمّا في المرحلة الثانية فذهب المحقّق النائيني قدسسره (1) إلى أنّ المسبّبات علىقسمين: فإنّها تارةً تكون من الاُمور الاعتباريّة التي ليس لها ما بحذاء فيوعاء العين، بل وعائها وعاء الاعتبار، كالملكيّة والزوجيّة والرقّية ونحو ذلكمن الوضعيّات الاعتباريّة التي أمضاها الشارع، واُخرى تكون من الاُمورالواقعيّة التي كشف عنها الشارع كالطهارة والنجاسة الخبثيّة على احتمال.
وأمّا القسم الأوّل فهو بنفسه ممّا تناله يد الوضع والرفع التشريعي على مهو الحقّ عندنا من أنّ هذا القسم من الأحكام الوضعيّة يستقلّ بالجعل وليسمنتزعاً من الأحكام التكليفيّة، فلو فرض أنّه أمكن أن يقع المسبّب عن إكراهونحوه كان للتمسّك بحديث الرفع مجال، فينزّل المسبّب منزلة العدم وكأنّه لميقع، ويلزمه عدم ترتيب الآثار المترتّبة على المسبّب من حلّيّة الأكل وجوازالتصرّف في باب العقود والإيقاعات.
وأمّا القسم الثاني فهو ممّا لا تناله يد الوضع والرفع التشريعي؛ لأنّه منالاُمور التكوينيّة، وهي تدور مدار وجودها التكويني متى تحقّقت ووجدت لتقبل الرفع التشريعي، بل رفعها لابدّ وأن يكون من سنخ وضعها تكويناً.
نعم، يصحّ أن يتعلّق الرفع التشريعي بها بلحاظ ما رتّب عليها من الآثارالشرعيّة.
ولا يتوهّم أنّ لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من اُكره على الجنابة، أوعدم وجوب التطهير على من اُكره على النجاسة، بدعوى أنّ الجنابة المكره
- (1) فوائد الاُصول 3:357 ـ 359.
(صفحه 249)
عليها وإن لم تقبل الرفع التشريعي إلاّ أنّها باعتبار ما لها من الأثر ـ وهوالغسل ـ قابلة للرفع، فإنّ الغسل والتطهير أمران وجوديّان قد أمر الشارع بهمعقيب الجنابة والنجاسة مطلقاً، من غير فرق بين الجنابة والنجاسة الاختياريّةوغير الاختياريّة.
وفيه: أوّلاً: أنّ إطلاق دليل الأمر بالغسل عقيب الجنابة، وهكذا إطلاقدليل الأمر بالتطهير عقيب النجاسة ليس مانعاً عن تعلّق الرفع بهما في صورةالإكراه؛ إذ المقصود حكومة حديث الرفع على إطلاقات الأدلّة الأوّليّة، وهذيعني كون الإطلاقات فيها مصحّحة للحكومة لا مانعة عنها.
وثانياً: أنّه لابدّ أن يقال في دفع التوهّم: إنّه لا دليل على ثبوت حكمتكليفي في الشريعة من وجوب الغسل أو التطهير عقيب الجنابة والنجاسةمطلقاً، بل الموجود هو قيام الدليل على شرطيّة الطهارة من الحدث والخبثفي صحّة، وهي أثر عدم الجنابة، والمرفوع بالحديث أثر الجنابة الإكراهيّة، ولأثر لها حتّى يرفع به، وقد حقّقنا في محلّه من عدم اتّصاف مقدّمة الواجببالوجوب الغيري، وعليه فلا وجوب شرعاً للغسل والتطهير عقيب الجنابةوالنجاسة ولو غيريّاً حتّى يكون الرفع بلحاظه. هذا تمام الكلام في بيانحديث الرفع.
الرواية الثانية: ما رواه الشيخ الصدوق قدسسره مرسلاً، قال: قال الصادق عليهالسلام :«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»(1).
ولا يضرّ إرسالها بعد نسبة الشيخ الصدوق قدسسره إلى الإمام عليهالسلام بلفظ قال.
والبحث فيها يقع في جهات:
الاُولى: في الاحتمالات الواردة في الحديث ثبوتاً، فنقول: هناك نقاط ثلاث
- (1) الوسائل 27: 173 ـ 174، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 67.
(صفحه250)
لابدّ من بحثها:
الاُولى: في لفظة «مطلق» فإنّ فيها احتمالات ثلاثة:
الأوّل: أن يكون المراد منه الإباحة الشرعيّة الواقعيّة المجعولة للأشياءبعناوينها الأوّلية.
الثاني: الإباحة الشرعيّة الظاهريّة المجعولة للأشياء بعناوينها الثانويّة.
الثالث: الإباحة العقليّة الأصليّة في الأشياء قبل ورود الشرع في مقابلالحظر العقلي.
ومن الواضح أنّ الاستدلال بالحديث على البراءة إنّما يتمّ بناءً على الاحتمالالثاني؛ إذ البراءة هي الإباحة الظاهريّة لا الواقعيّة، وأمّا الإباحة العقليّةفيشكل إثباتها بالحديث؛ لعدم صحّة التعبّد في الأحكام العقليّة.
النقطة الثانية: في لفظة «يرد»، وفيها احتمالان:
الأوّل: أن يكون المراد منها صدور الحكم من المولى وجعله له، فيكونمفاد الرواية: كلّ شيء لم يصدر فيه نهي ولم تجعل فيه الحرمة فهو مطلق.
الثاني: أن يكون المراد منها وصول الحكم إلى المكلّف وعلمه به لا مجرّدصدوره من الشارع وإن لم يصل إلى المكلّف، فيكون مفاد الرواية: كلّ شيء لميصل إلى المكلّف فيه نهي من الشارع فهو مطلق وإن صدر فيه نهي منالشارع.
ومن المعلوم أنّ الاستدلال بالرواية إنّما يتمّ بناءً على الاحتمال الثاني دونالأوّل؛ إذ ما لا نهي فيه رأساً لا كلام في أنّه لا عقوبة على ارتكابه، ولا يقولالأخباري بالاحتياط فيه.
النقطة الثالثة: في لفظة «نهي»، وفيها احتمالان:
الأوّل: أن يكون المراد منها النهي الواقعي المتعلّق بالشيء بعنوانه الأوّلي.