أنّ الأمر الثاني دليلاً مستقلاًّ مع غضّ النظر عن الأمر الأوّل، ومن المعلوم أنّالأمر الثاني لا يدلّ على عدم إمكان إرادة الإباحة الظاهريّة، وإنّما الأمر الأوّلهو الذي دلّ على ذلك، وقد عرفت جوابه.
لا شكّ في أنّ المراد من كلمة «يرد» في الرواية هو الوصول إلى المكلّف لالصدور من الشارع، وذلك لانقطاع الوحي في زمن صدور الرواية؛ لأنّهوردت في زمان الإمام الصادق عليهالسلام .
وأيضاً لاشكّ في أنّ المراد من كلمة «نهي» هو النهي الواقعي المتعلّق بأفعالالمكلّفين بعناوينها الأوّلية، والدليل على ذلك هو إضافة النهي إلى الشيء،فالموضوع بما هو شيء متعلّق للنهي لا بما هو مشكوك الحكم، وعليه فيكون
الحديث معارضاً لدليل الاحتياط، ومع عدم وصول النهي الواقعي يكونالحكم هو الإطلاق.
ثمّ لا يخفى أنّه ليس المراد من الإطلاق اللا حظر العقلي حتّى تكون الآيةبصدد بيان حكم عقلي؛ لأنّ ذلك خلاف ظاهر مولويّة الخطاب الصادر منالشارع.
فتحصّل: أنّ دلالة الرواية على البراءة ممّا لا إشكال يعتريه، بل تكونالبراءة المستفادة منها معارضة مع دليل الاحتياط.
الرواية الثالثة: قوله عليهالسلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا»(1).
ولاشكّ في دلالته على البراءة، وإنّما الكلام في أنّ المستفاد منه براءة محكومةلدليل الاحتياط أم معارضة له.
فذهب المحقّق النائيني قدسسره (2) إلى أنّ كلمة «ما» إن كانت موصولة فالبراءةالمستفادة من الحديث تعارض أدلّة الاحتياط؛ إذ مفاده: أنّ الناس من جهةالجهل بالحكم الشرعي يكونون في سعة، فيعارض به أخبار الاحتياط الدالّةعلى كون الناس في الضيق من جهة الحكم الشرعي المجهول.
وأمّا إن كانت مصدريّة زمانيّة فيكون مفاد الحديث: أنّ الناس ما داموا ليعلمون يكونون في سعة، فيكون دليل الاحتياط حاكماً عليه؛ لأنّه بيان، وهوشبيه حكومة دليل الاحتياط على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
والتحقيق: أنّ القسم الأوّل من كلامه قدسسره صحيح ولا يكون قابلاً للمناقشة،وأمّا القسم الثاني من كلامه قدسسره فلا يكون قابلاً للمساعدة، فإنّ المراد من «ليعلمون» هو الجهل بالواقع، فلابدّ ممّا يرد في مقابله بعنوان البيان أن يرفعه
- (1) المستدرك 18: 20، الباب 12 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 4.
- (2) أجود التقريرات 2: 181.
(صفحه 257)
وينقلب إلى العلم، ومعلوم أنّ وجوب الاحتياط ليس بياناً للواقع حتّى يكونكذلك، فإنّ مجرى الاحتياط ومورد دليل وجوب الاحتياط هو الشكّ فيالحكم الواقعي، ولايمكن أن يكون الأصل العملي بعنوان البيان والعلم ورافعللشكّ، وعليه فالبراءة المستفادة من الحديث معارضة لأدلّة الاحتياط، سواءكانت كلمة «ما» مصدريّة أو موصولة.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدسسره (1) ذهب إلى تفصيل آخر، وتوضيحه: أنّ وجوبالاحتياط المستفاد من الأدلّة إمّا يكون طريقيّاً، بمعنى أنّ وجوب الاحتياطإنّما يكون طريقاً إلى الحكم الواقعي المجهول، فيكون الملاك في جعل وجوبالاحتياط من قبل الشارع مجرّد الاحتفاظ بالواقع في ظرف الجهل به، ومنالواضح أنّه لا ثواب ولا عقاب لهذا الأمر الاحتياطي.
وإمّا يكون نفسيّاً بأن يكون الاحتياط واجباً في نفسه من دون نظر إلىالواقع المجهول وذلك لجعل المكلّف أشدّ مواظبة وأقوى إرادة على تركالمحرّمات وإتيان الواجبات، ومن الواضح ترتّب الثواب والعقاب على هذالأمر الاحتياطي.
ثمّ إذا كان وجوب الاحتياط طريقيّاً فتكون البراءة معارضة له؛ إذ حديثالسعة ظاهر في الترخيص في مورد الحكم الواقعي المجهول، ودليل وجوبالاحتياط الطريقي ظاهر في أنّ إيجابه إنّما هو لأجل التحفّظ على الحكمالواقعي المجهول، فيكون المكلّف في ضيق منه، وهذا هو التعارض.
وأمّا إن كان إيجاب الاحتياط نفسيّاً فحينئذٍ يكون رافعاً لموضوع حديثالسعة ويقدَّم عليه، وذلك لأنّ المكلّف بعد العلم بوجوب الاحتياط النفسي لمحالة يقع في ضيق من ناحية هذا الوجوب، ولكن لا يقع في ضيق من ناحية
- (1) كفاية الاُصول 2: 177.