(صفحه254)
التامّة مستحيل، فكذلك تخلّف الحكم عن موضوعه.
وقد عرفت أنّ الجهات الخارجيّة دخيلة في جعل الأحكام على متعلّقاتها،فلا إشكال في تخلّف الحكم عن موضوعه فيما إذا اقتضت المصالح الخارجيّةلذلك.
الأمر الثاني: أنّ الإباحة الظاهريّة حيث إنّها مغيّاة بصدور النهي واقعاً،أو مقيّدة بعدم صدوره واقعاً، فمع الشكّ في حصول الغاية أو القيد لا يصحّترتيب آثار الإباحة، بل لابدّ في ترتيبها من إحراز عدم صدور النهي،والمفروض أنّ عدم صدوره غير محرز وجداناً؛ إذ البحث في شيء شكّ فيحلّيته وحرمته، فلابدّ من إحرازه تعبّداً بأصالة عدم صدور النهي حتّى تثبتالإباحة فعلاً للموضوع المشكوك حكمه الواقعي.
ثمّ إن كان الغرض من إجراء الأصل مجرّد نفي الحرمة ظاهراً فلا مانع منه،إلاّ أنّه ليس من الاستدلال بالحديث بل بالأصل.
وإن كان الغرض منه التعبّد بالإباحة الشرعيّة فحينئذٍ يكون استدلالبالحديث، إلاّ أنّه لا يجري الاستصحاب لإثبات الإباحة الشرعيّة، وذلك لعدمإمكان إرادة الإباحة الواقعيّة أو الظاهريّة من الحديث؛ لما عرفت في الصورةالاُولى والأمر الأوّل من الصورة الثانية، وأمّا استصحاب الإباحة بمعنىاللاحرجيّة العقليّة فغير جارٍ أيضاً؛ لعدم كونها حكماً شرعيّاً ولا موضوعلحكم شرعي(1).
وفيه: أوّلاً: أنّا نختار أنّ الغرض من إجراء الأصل التعبّد بالإباحة الشرعيّة،وقد عرفت إمكان إرادة الإباحة الواقعيّة من الحديث في الصورة الاُولى، وأمّعدم إمكان إرادة الإباحة الظاهريّة فهو مصادرة واضحة؛ إذ الظاهر من كلامه
- (1) نهاية الدراية 2: 187 ـ 188.
(صفحه 255)
أنّ الأمر الثاني دليلاً مستقلاًّ مع غضّ النظر عن الأمر الأوّل، ومن المعلوم أنّالأمر الثاني لا يدلّ على عدم إمكان إرادة الإباحة الظاهريّة، وإنّما الأمر الأوّلهو الذي دلّ على ذلك، وقد عرفت جوابه.
وثانياً: أنّ استصحاب عدم ورود النهي لإثبات الإباحة من الاُصولالمثبتة؛ إذ تحقّق ذي الغاية مع عدم حصول غايته من الأحكام العقليّة كملايخفى. نعم، استصحاب بقاء الإباحة لا مانع منه.
الأمر الثالث: أنّ ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للإباحةالظاهريّة ـ كما هو المفروض ـ ومقتضى فرض عدم الحرمة إلاّ بقاءً هو فرضعدم الحرمة حدوثاً، ومقتضاه عدم الشكّ في الحلّية والحرمة من أوّل الأمر، فممعنى جعل الإباحة الظاهريّة المبعوثة بالشكّ في الحلّيّة والحرمة في فرض عدمالحرمة إلاّ بقاء(1).
وفيه: أنّ عدم الحرمة إلاّ بعد ورود النهي لا يستلزم عدم حصول الشكّ فيالحليّة والحرمة من أوّل الأمر، فإنّ تحقّق الشكّ للمكلّف ضروري مع شكّه فيورود النهي وعدمه، وهو كاف في جعل الإباحة الظاهريّة.
الجهة الثالثة: فيما هو الظاهر من الرواية بلحاظ مقام الإثبات:
لا شكّ في أنّ المراد من كلمة «يرد» في الرواية هو الوصول إلى المكلّف لالصدور من الشارع، وذلك لانقطاع الوحي في زمن صدور الرواية؛ لأنّهوردت في زمان الإمام الصادق عليهالسلام .
وأيضاً لاشكّ في أنّ المراد من كلمة «نهي» هو النهي الواقعي المتعلّق بأفعالالمكلّفين بعناوينها الأوّلية، والدليل على ذلك هو إضافة النهي إلى الشيء،فالموضوع بما هو شيء متعلّق للنهي لا بما هو مشكوك الحكم، وعليه فيكون
(صفحه256)
الحديث معارضاً لدليل الاحتياط، ومع عدم وصول النهي الواقعي يكونالحكم هو الإطلاق.
ثمّ لا يخفى أنّه ليس المراد من الإطلاق اللا حظر العقلي حتّى تكون الآيةبصدد بيان حكم عقلي؛ لأنّ ذلك خلاف ظاهر مولويّة الخطاب الصادر منالشارع.
فتحصّل: أنّ دلالة الرواية على البراءة ممّا لا إشكال يعتريه، بل تكونالبراءة المستفادة منها معارضة مع دليل الاحتياط.
الرواية الثالثة: قوله عليهالسلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا»(1).
ولاشكّ في دلالته على البراءة، وإنّما الكلام في أنّ المستفاد منه براءة محكومةلدليل الاحتياط أم معارضة له.
فذهب المحقّق النائيني قدسسره (2) إلى أنّ كلمة «ما» إن كانت موصولة فالبراءةالمستفادة من الحديث تعارض أدلّة الاحتياط؛ إذ مفاده: أنّ الناس من جهةالجهل بالحكم الشرعي يكونون في سعة، فيعارض به أخبار الاحتياط الدالّةعلى كون الناس في الضيق من جهة الحكم الشرعي المجهول.
وأمّا إن كانت مصدريّة زمانيّة فيكون مفاد الحديث: أنّ الناس ما داموا ليعلمون يكونون في سعة، فيكون دليل الاحتياط حاكماً عليه؛ لأنّه بيان، وهوشبيه حكومة دليل الاحتياط على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
والتحقيق: أنّ القسم الأوّل من كلامه قدسسره صحيح ولا يكون قابلاً للمناقشة،وأمّا القسم الثاني من كلامه قدسسره فلا يكون قابلاً للمساعدة، فإنّ المراد من «ليعلمون» هو الجهل بالواقع، فلابدّ ممّا يرد في مقابله بعنوان البيان أن يرفعه
- (1) المستدرك 18: 20، الباب 12 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 4.
- (2) أجود التقريرات 2: 181.
(صفحه 257)
وينقلب إلى العلم، ومعلوم أنّ وجوب الاحتياط ليس بياناً للواقع حتّى يكونكذلك، فإنّ مجرى الاحتياط ومورد دليل وجوب الاحتياط هو الشكّ فيالحكم الواقعي، ولايمكن أن يكون الأصل العملي بعنوان البيان والعلم ورافعللشكّ، وعليه فالبراءة المستفادة من الحديث معارضة لأدلّة الاحتياط، سواءكانت كلمة «ما» مصدريّة أو موصولة.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدسسره (1) ذهب إلى تفصيل آخر، وتوضيحه: أنّ وجوبالاحتياط المستفاد من الأدلّة إمّا يكون طريقيّاً، بمعنى أنّ وجوب الاحتياطإنّما يكون طريقاً إلى الحكم الواقعي المجهول، فيكون الملاك في جعل وجوبالاحتياط من قبل الشارع مجرّد الاحتفاظ بالواقع في ظرف الجهل به، ومنالواضح أنّه لا ثواب ولا عقاب لهذا الأمر الاحتياطي.
وإمّا يكون نفسيّاً بأن يكون الاحتياط واجباً في نفسه من دون نظر إلىالواقع المجهول وذلك لجعل المكلّف أشدّ مواظبة وأقوى إرادة على تركالمحرّمات وإتيان الواجبات، ومن الواضح ترتّب الثواب والعقاب على هذالأمر الاحتياطي.
ثمّ إذا كان وجوب الاحتياط طريقيّاً فتكون البراءة معارضة له؛ إذ حديثالسعة ظاهر في الترخيص في مورد الحكم الواقعي المجهول، ودليل وجوبالاحتياط الطريقي ظاهر في أنّ إيجابه إنّما هو لأجل التحفّظ على الحكمالواقعي المجهول، فيكون المكلّف في ضيق منه، وهذا هو التعارض.
وأمّا إن كان إيجاب الاحتياط نفسيّاً فحينئذٍ يكون رافعاً لموضوع حديثالسعة ويقدَّم عليه، وذلك لأنّ المكلّف بعد العلم بوجوب الاحتياط النفسي لمحالة يقع في ضيق من ناحية هذا الوجوب، ولكن لا يقع في ضيق من ناحية
- (1) كفاية الاُصول 2: 177.
(صفحه258)
الحكم الواقعي المجهول حتّى يعارض حديث السعة؛ إذ وجوب الاحتياط ـ كمهو المفروض ـ حكم نفسي ناشٍ عن ملاكه، ولا علاقة له بالواقع المجهول.
وفيه: أوّلاً: أنّ التعارض ثابت على كلا التقديرين، أمّا بناءً على الطريقيّةفواضح، وأمّا بناءً على النفسيّة فلأنّ مفاد حديث السعة هو التوسعة علىالناس ورفع الضيق عنهم في ظرف الشكّ والجهل بالواقع، ومعلوم أنّ جعلالاحتياط ولو بملاك نفسي في هذا الظرف يوجب الضيق على الناسفيتعارضان.
وثانياً: أنّه لو كان دليل الاحتياط بالوجوب النفسي رافعاً لموضوع حديثالسعة لكان جعل الترخيص والسعة لغواً؛ إذ لا ينفكّ موضوعه عن موضوعالاحتياط ولو في مورد مّا.
الرواية الرابعة: قوله عليهالسلام : «ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوععنهم»(1).
فتدلّ على أنّ التكليف المجهول ممّا حجب اللّه علمه عن العباد فهو مرفوعوموضوع عنهم، وهذا الحديث يعارض أدلّة الاحتياط؛ لأنّها تدلّ على عدمرفع ما حجب اللّه علمه، أي التكليف المجهول عن العباد.
وقد اُورد على الاستدلال بالحديث بأنّ ظاهر إسناد الحجب إلى اللّه تعالىهو الأحكام التي لم يبيّنها اللّه تعالى أصلاً، إمّا لأجل التسهيل والتوسعة علىالاُمّة، أو لأجل مانع من البيان مع وجود المقتضي لها، فلايشمل الأحكام التيبيّنها اللّه تعالى ولكن خفيت على العباد لظلم الظالمين ومنع المانعين، فيكونمفاد هذا الحديث هو مفاد قوله عليهالسلام : «اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه»(2) ويكون
- (1) الوسائل 27: 163، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.
- (2) عوالي اللئالي 3: 166، الحديث 61.