حيث إنّه يرتكب الشبهة عملاً، ولا مجال للسؤال عن ترك المباح فضلاً عنترك الشبهة، ويصحّ السؤال عن الارتكاب، مكابرة ظاهرة، فإنّ الأخبارييحكم بوجوب الاحتياط والحرمة في مورد ارتكاب الشبهة التحريميّة.
الطائفة الثانية: ما دلّ على وجوب الردّ إلى اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله عند عدم العلم.
وجوابها: أنّ هذا الطائفة تمنع من الإفتاء بالآراء والأهواء والتقوّل بلرجوع إلى مصادر التشريع، وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه، فإنّ الاُصولي إنّما حكمبالإباحة الظاهريّة في الشبهات البدويّة بعد الرجوع إلى الكتاب والسنّةواليأس من الدليل.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على التوقّف عند الشبهة بلا تعليل:
منها: قوله عليهالسلام : «أورع الناس من وقف عند الشبهة»(1).
ومنها: قوله عليهالسلام : «لا ورع كالوقوف عند الشبهة»(2).
ولايخفى ظهورهما في الاستحباب، والاُصولي أيضاً لا ينكر رجحانالاحتياط.
ومنها: قوله عليهالسلام : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك» ـ إلى أنقال عليهالسلام ـ : «أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج...»(3).
ولايخفى أنّ هذا الحديث راجع إلى آداب القاضي، وهو مستحبّ إجماعاً.
ومنها: قوله عليهالسلام : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(4).
ومعلوم أنّ هذا الحديث ناظرٌ إلى إنكار الحقّ بلا دليل، ومن الواضح أنّالاُصولي إنّما ينكر وجوب الاحتياط لقيام الدليل على خلافه، مع أنّه لايرتبطبما نحن فيه، فإنّه راجع إلى الكفر والإنكار القلبي.
الطائفة الرابعة: ما دلّ على التوقّف عند الشبهة مع التعليل:
منها: قوله عليهالسلام : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»(5).
- (1) الوسائل 27: 162، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
- (2) المصدر السابق: 161، الحديث 23.
- (3) المصدر السابق: 159، الحديث 18.
- (4) المصدر السابق: 158، الحديث 11.
(صفحه272)
وجوابه: أنّ الأمر بالتوقّف ليس إلاّ إرشاديّاً؛ إذ علّل التوقّف بأنّه خير منالاقتحام في الهلكة، ومن الواضح أنّه لا يصحّ هذا التعليل إلاّ أن تكون الهلكةمفروضة التحقّق في ارتكاب الشبهة، فلا يمكن إثبات الهلكة بالأمر بالتوقّف،وعليه فيختصّ الحديث بالشبهة البدويّة قبل الفحص والمقرونة بالعلمالإجمالي، وذلك لتنجّز التكليف والهلكة في موردها، بخلاف الشبهات البدويّةبعد الفحص، موضوعيّة كانت أو حكميّة.
الطائفة الخامسة: ما دلّ على الاحتياط في الشبهات:
منها: قوله عليهالسلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(1).
ولايخفى أنّ تعليق الاحتياط من حيث المقدار على مشيئة الإنسانومقدّميّة أخوك دينك للاحتياط كاشفان عن استحباب الاحتياط.
ومنها: كتاب عبد اللّه بن وضّاح إلى العبد الصالح عليهالسلام يسأله فيه عن وقتالمغرب والإفطار؟ فكتب عليهالسلام إليه: «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرةوتأخذ بالحائطة لدينك»(2).
ومعلوم أنّ الرواية خرجت مخرج التقيّة؛ إذ المتوقّع من الإمام عليهالسلام عندالسؤال هو بيان الحكم الواقعي لا الأمر بالاحتياط، والحكم الواقعي فيالمسألة هو التربّص إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة، خلافاً للعامّة حيث يكتفونبغيبوبة الشمس، ولكن لمّا كان التصريح بالحكم الواقعي في المكتوب مظنّةالضرر اضطرّ عليهالسلام في بيانه إلى طريق آخر، وهو الأخذ بالاحتياط، وعليه فليدلّ الحديث على وجوب الاحتياط في عامّة الشبهات.
ومنها: قال عبد الرحمن بن الحجّاج: سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجلين
- (1) المصدر السابق: الحديث 13.
- (2) المصدر السابق: 167، الحديث 46.
- (3) المصدر السابق: 166، الحديث 42.
(صفحه 273)
أصابا صيداً وهما محرمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال عليهالسلام :«بل عليهما أن يجزي كلّ واحد جزاءالصيد»، فقلت: إنّ بعض أصحابنا سألنيعن ذلك فلم أدر ما عليه؟ قال عليهالسلام : «إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكمبالاحتياط حتّى تسألوا عنه وتعلموا»(1).
وفيه: أوّلاً: أنّ الحديث ورد فيما إذا أمكن السؤال من الإمام عليهالسلام وإزالةالشبهة، ومحلّ النزاع فيما إذ لم يمكن إزالة الشبهة وبقاؤها حتّى بعد الفحصالكامل.
وثانياً: أنّ قوله عليهالسلام : «إذا أصبتم بمثل هذا» فيه احتمالان: الأوّل أن يكونالمراد من المشار إليه نفس الواقعة المسؤول عنها، أي إصابة الصيد، والثاني: أنيكون المراد منه الشيء الذي لا يعلم حكمه، وعلى الأوّل يكون الحديثأجنبيّاً عن الشبهة التحريميّة البدويّة بعد الفحص، وراجعاً إلى الشبهة الوجوبيّةالمقرونة بالعلم الإجمالي الدائر بين الأقلّ والأكثر، وعلى الثاني فإمّا أن يراد منقوله عليهالسلام : «فعليكم بالاحتياط» الاحتياط في الفتوى أو الفتوى بالاحتياط أوالفتوى بالطرف الموافق للاحتياط، إلاّ أنّ الظاهر هو الاحتمال الأوّل، فيكونالمقصود ترك الفتوى وعدم التقوّل على اللّه تعالى إلاّ بعد السؤال والعلم.
ومن الواضح أنّ الاُصولي يقول بحرمة الإفتاء بغير العلم، وإنّما قالبالإباحة في الشبهة لقيام الأدلّة الشرعيّة والعقليّة عليها، فيكون من مصاديقالقول عن علم.
هذا كلّه في الجواب التفصيلي عن هذه الطائفة، ويمكن الإجابة عنها إجمالبوجهين:
الأوّل: لا شكّ في استقلال العقل بحسن الاحتياط، وظاهر هذه الأخبار هو
- (1) المصدر السابق: 154، الحديث 1.