(صفحه264)
الواصل إلى المكلّف؛ إذ من الواضح أنّ الانبعاث نحو عمل أو الانزجار عنهإنّما هو من آثار التكليف الواصل، لا التكليف بوجوده الواقعي، فإنّه لا يكونمحرّكاً وزاجراً للعبد، ولايتمّ به الحجّة عليه.
ثمّ إنّ المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) ذهب إلى أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيانوإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أنّه أجنبيّ عمّا يعيّنه الاُصولي، وقال فيتوضيحه: إنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مأخوذ من الأحكام العقلائيّةالتي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع، ومنالواضح أنّ هذا الحكم العقلي العملي ليس منحازاً عن الأحكام العقليّة العمليّةالاُخرى، بل هو فرد من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، فإنّ مخالفةالتكليف الذي قامت عليه الحجّة هتك لحرمة المولى وخروج عن رسمالعبوديّة، وهو ظلم من العبد إلى مولاه، فيستحقّ الذمّ والعقاب عليه، كما أنّمخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم، وحينئذٍ فالعقوبة عليه ظلممن المولى إلى عبده، وهو قبيح من كلّ أحد؛ لأنّه يؤدّي إلى فساد النوعواختلال النظام، ولايخفى أنّ المهمّ هو دفع استحقاق العقاب على فعل محتملالحرمة ـ مثلاً ـ ما لم تقم عليه حجّة منجّزة له، وحيث إنّ موضوع الاستحقاقبالآخرة هو الظلم على المولى، فمع عدمه لا استحقاق قطعاً، وعليه فلا حاجةإلى ضمّ قبح العقاب بلا بيان وإن كان صحيحاً في نفسه.
وحاصل كلامه قدسسره : أنّ البحث في باب البراءة يرتبط بشأن من شؤوناتالمكلّف، وأنّه إذا شرب التتن بعد الفحص واليأس عن الدليل على حلّيتهوحرمته لا يستحقّ العقوبة.
وأمّا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فالمقصود منها أنّ عقوبة المولى للمكلّف
- (1) نهاية الدراية 2: 190 ـ 191.
(صفحه 265)
عند عدم تماميّة الحجّة على التكليف من قبله قبيح؛ لأنّه ظلم من المولى علىالعبد، فلا ينطبق الدليل على المدّعى، فإنّ القاعدة ترتبط بالمولى لا بالمكلّف.على أنّه لا أصالة لها بل هي من مصاديق الظلم.
وأورد عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1): أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ العقل مستقلّبوجوب إطاعة المنعم وقبح مخالفته، كما أنّه مستقلّ باستحقاق العقوبةللمتخلّف، ومع قطع النظر عن جميع الجهات الاُخرى فالحكم باستحقاقالعقوبة ليس بملاك انطباق عنوان الظلم.
وثانياً: أنّ المهمّ فيما نحن فيه هو تحصيل المؤمّن من العقاب حتّى يجوزللمكلّف ارتكاب محتمل الحرمة، ومعلوم أنّه إنّما يحصل بالتمسّك بكبرى قبحالعقاب بلا بيان، وأمّا مجرّد دفع الاستحقاق بمناط أنّ الارتكاب ليس ظلماً فليكفي في ذلك؛ لأنّ دفع الاستحقاق من جهة الظلم لا يصير مؤمّناً عن عامّةالجهات ما لم ينضمّ إليه حكم العقل بقبح العقاب من المولى عند عدم البيان.
وأمّا الجهة الثانية: فسيأتي البحث فيها عند مناقشة أدلّة الأخباريّين.
وأمّا الجهة الثالثة: فلاشكّ في أنّ أدلّة الاحتياط ـ على تقدير تماميّتها واردة على كبرى قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها؛ إذ على تقديروجوب الاحتياط يتمّ البيان من قبل المولى فلا يبقى موضوع للكبرى العقليّة،وقد قلنا في أوّل بحث البراءة بأنّ التمسّك بهذه الكبرى لا ينفع في مقام ردّالأخباريّين؛ إذ لا نزاع بين الفريقين في أصل تماميّة الكبرى، وإنّما النزاع فيالصغرى حيث ذهب الأخباريّون إلى تماميّة البيان وقيام الحجّة على التكاليفبأدلّة الاحتياط، وذهب الاُصوليّون إلى عكس ذلك.
هذا تمام الكلام في أدلّة البراءة.
- (1) تهذيب الاُصول 2: 189.
(صفحه266)
(صفحه 267)
(صفحه268)
المقام الثاني: في أدلّة الأخباريّون على الاحتياط
وأمّا الأخباريّون فقد استدلّوا بكلّ من الكتاب والسنّة والعقل علىوجوب الاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة:
الدليل الأوّل: الكتاب
ومنه: الآيات الآمرة بالتقوى، كقوله تعالى: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَحَقَّ تُقَاتِهِى»(1) بتقريب: أنّ حقّ التقوى المأمور بها في الآية الشريفة هوالاجتناب عن الشبهات التحريميّة، فإنّ الاقتحام فيها ينافي حقّ التقوىالواجب.
وفيه: أوّلاً: أنّ ارتكاب الشبهة استناداً إلى ما يدلّ على الترخيص شرعوعقلاً ـ كما ذكرناه ـ ليس منافياً للتقوى، بل هو التقوى.
وثانياً: أنّ الأوامر الآمرة بالتقوى ليست أوامر مولويّة وإنّما هي أوامرإرشاديّة، فلا تدلّ على الوجوب؛ لأنّ الأمر الإرشادي دائماً تابع للمرشد إليه،والدليل على كون الأمر بالتقوى إرشاديّاً هو أنّ التقوى لا تصدق إلاّ بعدفرض ما يتّقى منه في الرتبة السابقة، فلابدّ من افتراض تنجّز التكليفوالعقوبة كما في الواجبات والمحرّمات المعلومة في الرتبة السابقة على الأمر