الإرشاد إلى هذا الحكم العقلي، وقلنا: إنّ الأمر الإرشادي تابع لما يرشد إليه،وهو يختلف باختلاف الموارد، ففي بعضها يكون الاحتياط واجباً كما في الشبهةالبدوية قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، وفي بعضها الآخريكون الاحتياط حسناً كما في الشبهات البدويّة، موضوعيّة كانت أو حكميّة.
إلاّ أنّه قد يوجب الرعي في نفس الحمى، وهكذا الأمر في المشتبهات، فإنّارتكابها ليست محرّمة إلاّ أنّ التعوّد بها والاقتحام فيها قد يوجب جرأةالنفس على ارتكاب المحرّمات، فترك الشبهات يخلق في النفس ملكة وقوّةتردع عن ارتكاب المحرّمات المعلومة.
ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين، ونذكر منهنقاط ثلاث:
الاُولى: قوله عليهالسلام : «إنّما الاُمور ثلاثة: أمرٌ بيّن رشده فيتّبع، وأمرٌ بيّن غيّهفيجتنب، وأمرٌ مشكل يرد علمه إلى اللّه ورسوله».
وجوابها يتّضح ممّا مرّ في الطائفة الثانية.
النقطة الثانية: قوله صلىاللهعليهوآله : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن تركالشبهات نجى من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلكمن حيث لا يعلم».
ولا يخفى ظهورها في الاستحباب بنفس البيان المتقدّم في الرواية الاُولىوالثانية.
النقطة الثالثة: قوله عليهالسلام : «إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوفعند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».
والجواب: أوّلاً: أنّ ظاهر الكلام فيما إذا أمكن السؤال من الإمام عليهالسلام وإزالةالشبهة به، ومحلّ النزاع فيما إذا لا يمكن إزالة الشبهة وبقاؤها حتّى بعد الفحصالكامل.
وثانياً: أنّ الأمر بالتوقّف إرشادي كما مرّ في الطائفة الرابعة.
وثالثاً: أنّه على فرض مولويّة الخطاب لا يدلّ إلاّ على الاستحباب بقرينةالصدر ـ أعني النقطة الثانية ـ والتفكيك بينهما على خلاف المتفاهم العرفي.
(صفحه276)
ورابعاً: سلّمنا ظهوره في الوجوب، إلاّ أنّه لابدّ من رفع اليد عنه منجهتين:
الاُولى: وقوع التعارض بين المقبولة وبين ما دلّ على التخيير في الخبرينالمتعارضين، والجمع العرفي يقتضي حمل المقبولة على الاستحباب تحكيماً للنصّعلى الظاهر.
الجهة الثانية: ما ذكرناه مراراً من دوران الأمر بين رفع اليد عن ظهورالأمر في الوجوب وبين تخصيص المادّة بما عدا الشبهات الموضوعيّة والحكميّةالوجوبيّة؛ لعدم وجوب الاحتياط فيها إجماعاً، ولاشكّ أنّ الأوّل هو المتعيّن؛إذ لسان الحديث آب عن التخصيص.
الدليل الثالث: العقل
وتقريبه من وجوه:
الأوّل: أنّ الأصل في الأشياء ـ في غير الضروريّات ـ هو الحظر إلما خرج بالدليل، فلا يجوز ارتكاب الشبهة البدويّة التحريميّة؛ لعدم ترخيصمن الشارع.
وفيه: أوّلاً: أنّ أصالة الحظر ليست مسلّمة، فإنّ جماعة ذهبوا إلى أنّ الأصلفي الأشياء هو الإباحة، فلا وجه للاستدلال بما هو محلّ الخلاف.
وثانياً: أنّ القول بجواز التصرّف مستند إلى الأدلّة المجوّزة الشرعيّة منالآيات والروايات، مثل قوله عليهالسلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» فلا مجاللهذا التقريب من دليل العقل.
الوجه الثاني: حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، والمراد من الضرر هوالضرر الاُخروي ـ أي العقوبة ـ لا الضرر الدنيوي؛ إذ لا دليل على لزوم دفع
(صفحه 277)
الضرر الدنيوي المقطوع فضلاً عن الضرر المظنون أو المحتمل، وفي ارتكابالشبهة التحريميّة احتمال الوقوع في الضرر، ولاشكّ في أنّ هذه القاعدة ترفعموضوع البراءة العقليّة من قبح العقاب بلا بيان، فإنّه مع حكم العقل بوجوبالاحتفاظ على الحكم الواقعي حذراً من الوقوع في الضرر المحتمل يتمّ البيان؛إذ لا نقصد بالبيان خصوص البيان الشرعي، بل الأعمّ منه ومن العقلي.
وقد اُجيب عنه بإمكان العكس، بأن تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيانرافعة لموضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل؛ إذ مع حكم العقلبقبح العقاب عند عدم وصول التكليف إلى العبد لا يبقى مجال لاحتمال الضررليجب دفعه بحكم العقل، فتكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدةوجوب دفع الضرر المحتمل.
ولكنّ التحقيق في المسألة يتوقّف على بيان أمرين:
الأوّل: أنّه لا تصادم بين القاعدتين؛ لأنّها معاً من القواعد العقليّة القطعيّة،وهذا ممّا لا إشكال فيه، فيمتنع أن يتحقّق التعارض بينهما؛ إذ التعارض فيملم يكن القطع في البين.
الأمر الثاني: أنّ صدق الكبرى والقاعدة لا يتوقّف على وجود صغرى لها،فإنّ لناكبريات ليس لها صغرى أصلاً، ولكن على فرض وجود الصغرىتنطبق الكبرى عليها.
ثمّ إنّ الاحتجاج والاستدلال دائماً يتمّ بتحقّق الصغرى والكبرى؛ إذالكبرى بما هي لا تنفع شيئاً في مورد من الموارد لولا انضمام الصغرى إليها،وعليه فالعلم بوجوب دفع الضرر المحتمل كالعلم بقبح العقاب بلا بيان لينتجان إلاّ إذا انضمّ إلى كلّ واحد صغراه، فيقال في الاُولى: إنّ الضرر فيارتكاب مشكوك الحرمة محتمل، ودفع الضرر المحتمل واجب، فينتج وجوب