(صفحه278)
الاحتراز عن مشكوك الحرمة.
ويقال في الثانية: إنّ العقاب على مشكوك الحرمة بعد الفحص وعدم العثورعلى الحكم عقاب بلا بيان، والعقاب بلا بيان قبيح، فينتج أنّ العقاب علىمشكوك الحرمة قبيح.
فالتعارض بين القياسين، فإنّهما غير قابلين للجمع، ولا محالة يكونالإشكال في أحدهما، ولابدّ من ملاحظة ما هو متأخّر عن الآخر.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الصغرى في القياس الثاني وجدانيّة فعليّة وغيرمعلّقة على شيء، فإنّ الذي يمارس عمليّة الاستنباط بعد الفحص الكامل فيمظانّ التكليف يحرز وجداناً عدم وصول البيان من المولى في مورد الشبهة،ومع انضمام هذه الصغرى إلى الكبرى يستنتج أنّ العقاب في مورد مشكوكالحرمة قبيح، ومن الواضح أنّ القياس المركّب من صغرى وجدانيّة وكبرىبرهانيّة ينتج نتيجة قطعيّة.
وأمّا بالنسبة إلى القياس الأوّل فصغراه غير فعليّة، بل معلّقة على اُمور؛ إذاحتمال العقاب في موردٍ مّا لابدّ وأن يكون له منشأ معقول، ومنشؤه يمكن أنيكون أحد الاُمور التالية:
1ـ أن تكون الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي.
2ـ أن يكون ارتكاب الشبهة البدويّة قبل الفحص، أو بعد الفحصالناقص.
3ـ أن لا يكون العقاب بلا بيان قبيحاً عقلاً.
4ـ أن لا يرد ترخيص في ارتكاب الشبهة.
5ـ أن لا يكون العقاب بلا بيان قبيحاً على المولى.
ولايخفى انتفاء كلّ هذه الاُمور فيما نحن فيه، ومعه لا يبقى مجال لاحتمال
(صفحه 279)
العقاب حتّى ينضمّ إلى كبرى وجوب دفع الضرر المحتمل، وأمّا الكبرىبوحدتها فلا تنفع شيئاً كما عرفت.
ومن الواضح أنّ القياس المنظّم من المقدّمات الفعليّة مقدّم على القياسالمعلّق على اُمور لم يتحقّق واحد منها، وبما ذكرنا يظهر وجه النظر فيما قيل منأنّ كبرى قبح العقاب بلا بيان واردة على كبرى وجوب دفع الضرر المحتمل.
الوجه الثالث: أنّ كلّ مسلم يعلم إجمالاً في أوّل بلوغه بوجود تكاليفإلزاميّة كثيرة في الشريعة، ومثل هذا العلم الإجمالي ينجّز التكاليف الواقعيّةعلى المكلّف، فيجب عليه الخروج من عهدتها بالاحتياط في جميع الشبهاتحتّى يحصل له العلم بالفراغ عمّا اشتغلت ذمّته به يقيناً؛ لأنّ الاشتغال اليقينييقتضي الفراغ اليقيني بحكم العقل، ومن المعلوم أنّ منجّزية العلم الإجمالي تمنعمن الرجوع إلى البراءة.
وجوابه: أوّلاً: بالنقض بالشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة الوجوبيّة،فإنّ العلم الإجمالي هذا لو كان مانعاً عن الرجوع إلى البراءة في الشبهاتالحكميّة التحريميّة لكان مانعاً عن الرجوع إليها في الشبهات الموضوعيّةوالحكميّة الوجوبيّة بنفس البيان، مع أنّ الأخباري لا يقول بوجوبالاحتياط فيهما.
وثانياً: بالحلّ، وهو أنّ العلم الإجمالي بتكاليف واقعيّة ينحل بواسطة قيامالأمارات على التكاليف الإلزاميّة في أطراف المعلوم بالإجمال.
توضيح ذلك: أنّ للإنحلال هنا ثلاث صور:
الاُولى: انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، كما إذا علمنا إجمالاً بخمريّةأحد الإناءين، ثمّ علمنا تفصيلاً بأنّ الخمر المعلوم بالإجمال هو في الإناء الواقعفي طرف اليمين، ولاشكّ في انحلال العلم الإجمالي في هذه الصورة حقيقة
(صفحه280)
لانعدامه وقيام العلم التفصيلي مقامه.
الصورة الثانية: انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير، معالعلم بأنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير هو عين المعلوم بالإجمالفي العلم الإجمالي الكبير، كما إذا علمنا إجمالاً بوجود خمس شياه مغصوبة فيقطيع من الغنم، وعلمنا أيضاً بوجود تلك الشياه المغصوبة في خصوص جملةالشياه البيض من قطيع الغنم، فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل الكبيربالعلم الإجمالي الثاني الصغير، فلا يجب الاحتياط إلاّ في دائرة القسم الأبيضمن الشياه.
الصورة الثالثة: انحلال العلم الإجمالى الكبير بالعلم التفصيلي أو بالعلمالإجمالي الصغير، ولكن مع احتمال أن يكون المعلوم بالتفصيل أو المعلومبالإجمال في العلم الإجمالي الصغير غير المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليالكبير، كما إذا علمنا إجمالاً بخمريّة أحد الإناءين، ثمّ علمنا تفصيلاً أو قامدليل شرعي من البيّنة أو الأصل على خمريّة الإناء الواقع في طرف اليمين،ولكن يحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال مغايراً للمعلوم بالتفصيل ومفادالأمارة والأصل.
ويترتّب على هذه المسألة ثمرات متعدّدة في الفقه، فلابدّ من البحث فيهمفصّلاً، فنقول:
إنّه يستفاد من كلمات الفقهاء والأعاظم أنّ أصل الانحلال في هذه الصورةلا إشكال فيه، إنّما الكلام في أنّ الانحلال هنا حكميّ أو حقيقيّ؟ فقد يقال: إنّالانحلال في هذه الصورة حكمي، وذلك بتقريبين:
الأوّل: ما أفاده المحقّق العراقي قدسسره (1) من أنّه مع قيام المنجّز في أحد طرفي
- (1) نهاية الأفكار 3: 251 ـ 252.
(صفحه 281)
العلم الإجمالي، علماً كان أو أمارة أو أصلاً يخرج العلم الإجمالي عن تمامالمؤثّرية في هذا الطرف، لما هو المعلوم من عدم تحمّل تكليف واحدللتنجيزين، وبخروجه عن قابليّة التأثّر من قبل العلم الإجمالي مستقلاًّ يخرجالمعلوم بالإجمال، وهو الجامع الإطلاقي عن القابليّة المزبورة، فلا يبقى مجاللتأثير العلم الإجمالي في متعلّقه؛ لأنّ معنى منجّزية العلم الإجمالي هو كونهمؤثّراً مستقلاًّ في المعلوم على الإطلاق، وهذا المعنى غير معقول بعد خروجأحد الأطراف عن قابليّة التأثّر من قبله مستقلاًّ، فلا يبقى إلاّ تأثيره على تقديرخاص، وهو أيضاً مشكوك من الأوّل؛ إذ لا يكون التكليف على ذاك التقديرمتعلِّقاً للعلم، فما هو المعلوم وهو الجامع المطلق القابل للانطباق على كلّ واحدمن الطرفين غير قابل للتأثّر من قبل العلم الإجمالي، وما هو قابل لذلك هوالجامع المقيّد انطباقه على الطرف الآخر لا يكون من الأوّل معلوماً؛ لعدمقابليّته للانطباق على الطرف المعلوم بالتفصيل، وبذلك يسقط العلم الإجماليعن السببيّة؛ للاشتغال بمعلومه بجعله في عهدة المكلّف، وبسقوطه تجريالاُصول النافية في الطرف الآخر، وفي ذلك لا فرق بين أنحاء الطرق، بلالاُصول المثبتة، حيث إنّ الجميع على منوال واحد في كون الانحلال حكميّاً لحقيقيّاً.
وفيه: أوّلاً: ما سيأتي من تماميّة الانحلال الحقيقي في المقام وانعدام العلمالإجمالي في لوح النفس.
وثانياً: ما سوف يأتي تفصيله في بحث الاشتغال من أنّ القطع الوجدانيـ تفصيليّاً كان أو إجماليّاً ـ بالتكليف الفعلي الذي لم يرض المولى بتركه، وقدتعلّقت إرادته به علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة،
(صفحه282)
وعليه فلا يصحّ القول بأنّ العلم الإجمالي مع بقائه في لوح النفس يسقط عنالتأثير والمنجّزية، وبسقوطه تجري الاُصول النافية في الطرف الآخر.
التقريب الثاني: ما أفاده المحقّق الإصفهاني قدسسره (1) من أنّ العلم الإجمالي يتعلّقبوجوب ما لا يخرج من الطرفين، لا بأحدهما المردّد، فلا ينجّز إلاّ بمقداره،فتنجّز الخصوصيّة المردّدة كتنجّز كلتا الخصوصيّتين به محال، لكن حيث إنّكلاًّ من الطرفين يحتمل أن يكون واقعاً طرف ذلك الوجوب الواحد المنجّزبالعلم الإجمالي، فيكون في تركه احتمال العقاب، فينبعث الإنسان جبلة وطبعنحو إتيان كلا الطرفين، وعليه ففي كلّ واحد من طرفي العلم الإجمالي يحتملالحكم المنجّز لا أنّه منجّز، هذا هو حال العلم الإجمالي.
وأمّا الأمارة القائمة على أحد الطرفين بخصوصه ـ كما إذا قامت علىوجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ـ فهي منجّزة للخاصّ بما هو خاصّ،وليس لها في تنجّز الخاصّ مزاحم، فلا محالة تستقلّ الأمارة بالتأثير في تنجّزالخاصّ بما هو خاصّ.
ولاريب في أنّ تنجيز الخاصّ بما هو خاصّ الذي لا مزاحم له يمنع عنتنجيز الوجوب الواحد المتعلّق بما لا يخرج عن الطرفين؛ إذ ليس للواحد إلتنجّز واحد، فلا يعقل بقاء العلم الإجمالي على تنجيزه، وإذا دار الأمر بينمنجّزين أحدهما يزاحم الآخر بتنجيزه ولو بقاءً والآخر لا يزاحمه في تنجيزهولو بقاءً لعدم تعلّقه بالخاصّ حتّى ينجّزه، فلا محالة يكون التأثير للأوّل الذيلا مزاحم له ولو بقاءً.
وفيه: أوّلاً: ما سيأتي من تماميّة الانحلال الحقيقي في المقام.
وثانياً: أنّ القول بكون العلم الإجمالي متعلّقاً بوجوب ما لا يخرج عن
- (1) نهاية الدراية 2: 202.