(صفحه 283)
الطرفين لا بأحدهما المردّد ممّا يأباه الوجدان، فإنّنا عندما نعلم إجمالاً بوجوبصلاة الجمعة أو الظهر نرى وجداناً أنّ العلم متعلّق بأحدهما المردّد، أي نعلمأنّ الواجب إمّا هو الجمعة بما لها من الخصوصيّة أو الظهر بما لها منالخصوصيّة أيضاً. نعم، بعد تحقّق العلم الإجمالي في لوح النفس وتعلّقهبأحدهما المردّد يقف المكلّف على أنّ الواجب ما لا يخرج عن الطرفين، فمذكره قدسسره ليس إلاّ بياناً لما بعد تعلّق العلم الإجمالي لا تفسيراً له.
وثالثاً: أنّه كما أنّ كلّ واحد من طرفي العلم الإجمالي يحتمل الحكم المنجّز لأنّه منجّز، فكذلك الأمارة القائمة على وجوب صلاة الظهر بخصوصيّتها تحتملالتنجيز، فإنّ معنى حجّية الأمارة هو منجّزيتها للواقع عند مطابقتها للواقع،ومعذّريتها عند المخالفة للواقع، فالتنجيز في العلم الإجمالي والأمارة ليس إلعلى سبيل الاحتمال لا أنّه منجّز، كما أنّ حكم العقل في كليهما على نسق واحد،وهو لزوم الاتّباع لاحتمال التكليف المنجّز الموجب لاستحقاق العقاب علىالمخالفة.
فالأمارة وإن قامت على الخصوصيّة لكنّها ليست منجّزة للتكليف على كلّتقدير، بل على فرض مطابقتها للواقع.
ورابعاً: ما أورده اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) من أنّه لو سلّمنا بأنّ متعلّقالعلم الإجمالي إنّما هو وجوب ما لا يخرج عن الطرفين، فلا محالة يكون المنجَّزـ بالفتح ـ بالعلم الإجمالي ما ينطبق عليه عنوان «وجوب ما لا يخرج عنالطرفين»، وهو نفس التكليف الواقعي، فلو فرض قيام الأمارة على وجوبصلاة الظهر وتطابقها للواقع يكون مؤدّاها أيضاً نفس التكليف الواقعي، وهذيعني أنّ التنجيز كمايكون مستنداً إلى الأمارة يكون مستنداً إلى العلم الإجمالي
- (1) تهذيب الاُصول 2: 210 ـ 211.
(صفحه284)
أيضاً، بل يمكن القول بأنّ التنجيز مستند إلى العلم الإجمالي فقط بلحاظ سبقهوتقدّمه؛ إذ ليس للتكليف الواحد إلاّ تنجيز واحد.
هذا كلّه في الانحلال الحكمي، وأمّا الانحلال الحقيقي فقد ذكر له تقريبانأيضاً:
الأوّل: ما أفاده المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) من أنّه ربما يدّعى انطباق المعلومبالإجمال على المعلوم بالتفصيل قهراً؛ إذ لم يتنجّز بالعلم الإجمالي إلاّ عددخاصّ ـ مثلاً ـ بلا عنوان، والمفروض تنجّز واقعيّات قامت عليها الأماراتبذلك المقدار، فلو لم تنطبق عليها الواقعيّات المنجّزة بالأمارات لكان إمّا منجهة زيادة الواقعيّات المعلومة بالإجمال على الواقعيّات المنجّزة بالأمارات، أومن جهة تعيّن الواقعيّات المعلومة بالإجمال بنحو يأبى الانطباق، أو من جهةتنجّز غير الواقعيّات بالأمارات، والكلّ خلف وخلاف الواقع.
وحاصل هذا التقريب يرجع إلى أنّ العلم الإجمالي قد تعلّق بأمر غيرمتعيّن، والعلم التفصيلي تعلّق بأمر متعيّن، وانطباق اللامتعيّن على المتعيّنقهري؛ لأنّ عدم الانطباق ينشأ من إحدى الوجوه الثلاثة المتقدّمة، وهيخلاف الواقع.
وفيه: أنّ المعلوم بالإجمال لمّا كان أمراً غير متعيّن فيحتمل فيه أن يكونعين ما تعيّن بالعلم التفصيلي، ويمكن أن يكون غيره، فالقول بالانطباقالقهري ممّا يأباه الوجدان، فإنّ لازم الانطباق القهري هو العلم بأنّ المعلومبالتفصيل هو عين المعلوم بالإجمال، مع أنّ العينيّة محتملة كما هو مفروضالمسألة.
التقريب الثاني: ما أفاده اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (2) من أنّ الميزان في
- (1) نهاية الدراية 2: 200.
- (2) تهذيب الاُصول 2: 206 ـ 207.
(صفحه 285)
الانحلال لو كان قائماً باتّحاد المعلومين مقداراً مع العلم بأنّ المعلوم بالتفصيلهو عين المعلوم بالإجمال لكان لعدم الانحلال وجه، إلاّ أنّ الميزان هو عدمبقاء العلم الإجمالي في لوح النفس، وانقلاب القضيّة المنفصلة الحقيقيّة أو المانعةالخلوّ إلى قضيّة بتّية وقضيّة مشكوك فيها فيما إذا كان للعلم الإجمالي طرفان،أو إلى قضايا بتّية وقضايا مشكوكة إذا كان له أطراف، فمثلاً: لو علم بوجودخمر في الإناءين، ثمّ علم تفصيلاً بأنّ الخمر في الإناء من الطرف الأيمن، فلمحالة يرتفع الترديد حينئذٍ، وتنقلب القضيّة المردّدة إلى قضيّة بتّية وقضيّةمشكوكة، فيقال: «هذا خمر قطعاً» و«ذاك مشكوك الخمريّة».
إن قلت: صحيح أنّه بعد العلم التفصيلي بخمريّة أحد الإناءين ينحلّ العلمالإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي، إلاّ أنّه يحتمل أن يكون المعلومبالإجمال هو نفس المشكوك فيه.
قلت: هذا الاحتمال لا يضرّ بالانحلال، وذلك لأنّ المضرّ هو احتمال انطباقالمعلوم بالإجمال بوصف كونه معلوماً بالفعل على الطرف المشكوك، لااحتمالانطباق ما كان معلوماً إجمالاً في السابق الذي هو معدوم فعلاً؛ للعلم التفصيليبأحد الطرفين، فإنّه لا أثر لهذا الاحتمال أصلاً.
والتحقيق: أنّ كلامه قدسسره مع تماميّته في بيان المعيار والملاك للانحلال الحقيقيلا يشمل جميع فروض مورد البحث هنا.
بيان ذلك: أنّه إذا تحقّق العلم التفصيلي بأحد الطرفين بعد تحقّق العلمالإجمالي أو تحقّق العلم الإجمالي الصغير بعد تحقّق العلم الإجمالي الكبيريتحقّق ملاك الانحلال الحقيقي المذكور وإن احتمل مغايرة المعلوم بالتفصيل أوالمعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير للمعلوم بالإجمال في العلم الأوّل؛
(صفحه286)
لزوال العلم الإجمالي فيهما عن صفحة النفس حقيقة.
وأمّا إذا تحقّقت حجّة شرعيّة على أحد الطرفين بعد العلم الإجماليـ كالبيّنة في الشبهات الموضوعيّة، أو الأمارة الشرعيّة في الشبهات الحكميّة، أوالاُصول العمليّة ـ فلا يتحقّق ملاك الانحلال الحقيقي؛ لعدم حصول العلم بمفادالأمارة ومجرى الاُصول العمليّة حتّى يزول العلم الإجمالي عن صفحة النفس،مع احتمال مغايرتهما للمعلوم بالإجمال.
ولكن مع ذلك يكون كلام الإمام قدسسره جواباً صحيحاً عن استدلالالأخباري، فإنّ ما نحن فيه من قبيل انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلمالإجمالي الصغير.
توضيح ذلك: أنّ العلم الإجمالي الكبير بوجود محرّمات كثيرة في الشريعةمنحلّ بالعلم الإجمالي الصغير بوجود محرّمات في دائرة الأمارات المعتبرة،وعليه فلا يجب الاحتياط إلاّ في خصوص دائرة العلم الإجمالي الصغير،والأخذ بكلّ أمارة معتبرة دالّة على الحرمة، وأمّا الشكّ في وجود محرّماتاُخرى في دائرة الشبهات فيكون شكّاً بدويّاً، فتجري فيها الاُصول النافيةللتكليف.
(صفحه 287)
تنبيهات البراءة
تنبيهات البراءة
التنبيه الأوّل: في جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة
قد عرفت في الأبحاث السابقة جريان البراءة في الشبهات الحكميّة، وجوبيّةكانت أو تحريميّة، وأمّا جريانها في الشبهات الموضوعيّة فوقع محلاًّ للاختلاف،والحقّ في المسألة يحتاج إلى بسط في المقال، فنقول:
إنّ الحكم المتعلّق بالطبيعة يتصوّر على أقسام أربعة:
الأوّل: أن يكون التكليف متعلّقاً بالطبيعة بنحو العام الاستغراقي؛ بأنيكون التكليف متعدّداً بتعدّد أفرادها، فيكون لكلّ فرد إطاعة ومعصيةمستقلّة، سواء كان التكليف وجوبيّاً أو تحريميّاً.
القسم الثاني: أن يكون التكليف متعلّقاً بالطبيعة بنحو العام المجموعي؛ بأنيكون مجموع الأفراد من حيث المجموع موضوعاً واحداً تعلّق به التكليف،وحينئذٍ فإن كان التكليف وجوبيّاً فالامتثال لا يتحقّق إلاّ بإتيان جميع أفرادالطبيعة ويكون إطاعة واحدة، ويتحقّق عصيان الأمر ولو بترك فرد واحدويكون عصياناً واحداً.
وأمّا إن كان التكليف تحريميّاً فامتثاله يكون بترك جميع أفراد الطبيعة،وعصيانه يتحقّق بإتيان جميع الأفراد. وأمّا الإتيان ببعض الأفراد دون بعض