(صفحه 289)
عند الشكّ في التكليف هو البراءة لا الاشتغال.
إن قلت: إنّ الشكّ في الشبهات الموضوعيّة ليس من جهة فقدان النصّ أوإجماله أو تعارض النصّين، وإنّما الشكّ نشأ من الاشتباه في الاُمور الخارجيّة،فليس من قبيل الشكّ في التكليف حتّى تشمله أدلّة البراءة، بل يكون منقبيل الشكّ في الامتثال، وهو مجرى قاعدة الاشتغال.
توضيح ذلك: أنّ أدلّة البراءة ـ شرعيّة كانت أو عقليّة ـ لا تجري في الشبهةالموضوعيّة؛ ضرورة أنّ وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلاّ بيان الكبرياتوالأحكام الكلّية، وقد بيّنها ووصلت إلى المكلّف حسب الفرض، وإنّما الشكّفي الصغرى ومقام الامتثال، ومن الواضح أنّ المرجع في إزالة هذه الشبهة ليسهو الشارع، وعليه فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، بداهة تحقّق البيانبصدور الحكم الكلّي وعلم المكلّف به، كما لا يجري مثل حديث الرفع؛ إذالحديث إنّما يرفع ما يكون وضعه بيد الشارع، وقد اتّضح أنّ ما يكون وضعهبيده هو جعل الحكم الكلّي وتبليغه لا غير، فالمتعيّن حينئذٍ هو الرجوع إلىقاعدة الاشتغال؛ لأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة.
قلت: صحيح أنّ وظيفة الشارع إنّما هو بيان الكبريات لا المصاديقالخارجيّة، إلاّ أنّ العقاب لا يصحّ إلاّ مع تماميّة الحجّة على العبد، ومن الواضحأنّ الحجّة إنّما تتمّ بتمام الصغرى والكبرى عند العبد؛ إذ الكبرى بما هي لا تنفعشيئاً في مورد من الموارد لولا انضمام الصغرى إليها.
والحاصل: أنّ عدم تماميّة الحجّة قد يكون من جهة عدم تماميّة الكبرى،وقد يكون من جهة عدم تماميّة الصغرى، ومع عدم تماميّة الحجّة تجري البراءةلقبح العقاب بلا بيان، أي بلا حجّة.
وأمّا القسم الثاني فالحقّ فيه هو التفصيل، بمعنى أنّه إن كان التكليف
(صفحه290)
وجوبيّاً وشككنا في مصداقيّة فرد للعام المجموعي، فالمرجع هو الاشتغال،فيجب الإتيان بالفرد المشكوك، فمثلاً: إذا قال المولى: «أكرم مجموع العلماء»وشككنا في عالميّة «زيد» يجب إكرامه؛ لأنّ ترك إكرامه والاكتفاء بإكرام منعلم كونه عالماً يوجب الشكّ في تحقّق عنوان المأمور به، وهو إكرام مجموعالعلماء من حيث المجموع، وعند الشكّ في المحصّل وانطباق المأمور به علىالمأتي به تجري قاعدة الاشتغال لا محالة، ومعلوم أنّ دوران الأمر بين الأقلّوالأكثر الارتباطيّين في الشبهة الموضوعيّة يكون مجرى للاحتياط، فإنّاشتغال الذمّة اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.
وأمّا إن كان التكليف تحريميّاً فلا إشكال في جريان البراءة، وذلك لجوازارتكاب بعض الأفراد المعلومة فضلاً عن الفرد المشكوك فيه؛ ضرورة أنّالمنهي عنه في هذا القسم هو ارتكاب المجموع من حيث المجموع، ومن الواضحأنّه مع ترك بعض الأفراد وارتكاب البعض الآخر يصدق أنّه لم يرتكبالمجموع من حيث المجموع، فلا يكون عاصياً، بل لو ترك فرداً واحداً منالطبيعة وارتكب باقي الأفراد بأجمعها يكون مطيعاً. نعم، لا يصحّ الاكتفاء ببقاءالفرد المشكوك الفرديّة؛ إذ لم يحرز ببقائه عدم تحقّق المنهي عنه.
وأمّا القسم الثالث فالحقّ فيه هو التفصيل أيضاً، ففي جانب الحكمالوجوبي لا يمكن الاكتفاء في مقام الامتثال بالفرد المشكوك، بل لابدّ منالإتيان بما هو متيقّن الفرديّة للطبيعة؛ إذ مع الشكّ في انطباق المأمور به علىالمأتي به يجري الاشتغال، وأمّا في جانب الحكم التحريمي فتجري البراءة فيالفرد المشكوك بلا إشكال، فلا يجب الاجتناب عنه؛ إذ الشكّ حينئذٍ ليسشكّاً في سقوط التكليف حتّى يكون مورداً للاشتغال، وإنّما هو شكّ في ثبوتالتكليف فتجري البراءة.
(صفحه 291)
وأمّا القسم الرابع فالحكم فيه كما في القسم الثالث حرفاً بحرف.
فتحصّل: أنّ المرجع في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة هو البراءة مطلقاً، وأمّالشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة فالمرجع فيها هو الاشتغال، إلاّ القسم الأوّلحيث كان المرجع فيه البراءة كما عرفت.
التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط مطلقاً
لا ريب في حسن الاحتياط عقلاً في جميع صور احتمال التكليف وإن كانالحكم فيها هو البراءة كما عرفت، فإنّ العقل يحكم بحسن إتيان ما يحتمل أنيكون مطلوباً للمولى، وترك ما يحتمل أن يكون مبغوضاً له، سواء كانتالشبهة موضوعيّة أو حكميّة، وسواء كانت تعبّدية أو توصّلية، بل حتّى فيما إذقامت الأمارة على عدم التكليف في الواقع، فإنّ احتمال ثبوت التكليف فيالواقع كافٍ في حسن الاحتياط.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدسسره (1) اشترط في حسن الاحتياط إذا كان على خلافهحجّة شرعيّة أن يعمل المكلّف أوّلاً بمؤدّى الحجّة، ثمّ يعقبه بالعمل علىخلاف ما اقتضته الحجّة؛ إحرازاً للواقع، وليس للمكلّف العمل بما يخالفالحجّة أوّلاً ثمّ العمل بمؤدّى الحجّة، إلاّ إذا لم يستلزم رعاية احتمال مخالفةالحجّة للواقع استئناف جملة العمل، كما إذا كان مفاد الحجّة عدم وجوبالسورة في الصلاة، فإنّ رعاية احتمال مخالفتها للواقع يحصل بالصلاة معالسورة، ولا يتوقّف على تكرار الصلاة وإن كان يحصل بالتكرار أيضاً. وهذبخلاف ما إذا كان مفاد الحجّة وجوب خصوص صلاة الجمعة مع احتمال أنيكون الواجب هو خصوص صلاة الظهر، فإنّ رعاية احتمال مخالفة الحجّة
- (1) فوائد الاُصول 4: 265.
(صفحه292)
للواقع لا يحصل إلاّ بتكرار العمل، وفي هذا القسم لا يحسن إلاّ بعد العمل بميوافق الحجّة، ولا يجوز العكس.
والسرّ في ذلك: هو أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملوعدم الاعتناء به، والعمل أوّلاً برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاءاحتمال الخلاف، فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف. وهذا بخلاف ما إذقدّم العمل بمؤدّى الطريق، فإنّ المكلّف بعدما أدّى الوظيفة وعمل بما يقتضيهالطريق فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع.
هذا، مضافاً إلى أنّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم التمكّن من الطاعةالتفصيليّة، فإنّ للإطاعة مراتب عقلاً: الاُولى: الامتثال التفصيلي، الثانية:الامتثال الإجمالي، الثالثة: الامتثال الظنّي، الرابعة: الامتثال الاحتمالي. ولا يجوزعقلاً الانتقال من المرتبة السابقة إلى المرتبة اللاّحقة إلاّ بعد تعذّر السابقة،وعليه فبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلّفمتمكّناً من الطاعة والامتثال التفصيلي بمؤدّى الطريق، فلا يحسن منه الامتثالالاحتمالي لصلاة الظهر.
ويردّ عليه: أوّلاً: ما ذكرناه مراراً من أنّ مفاد أدلّة حجّية خبر الواحد هولزوم اتّباع قول الثقة وجعله منجّزاً ومعذّراً، وأمّا تنزيله منزلة العلم في عالمالتشريع وإلقاء احتمال الخلاف فلا يستفاد منها بوجه.
وثانياً: أنّه على فرض أن تكون حجّية خبر الواحد بمعنى إلقاء احتمالالخلاف وتنزيله بمنزلة العلم تعبّداً، فلا يصحّ التفكيك والتفصيل بين إتيانصلاة الظهر بعد صلاة الجمعة وقبلها في المثال في عدم جواز الإتيان بصلاةالظهر بعدما كان عالماً بوجوب صلاة الجمعة.
وثالثاً: أنّه على فرض صحّة ما ذكره لابدّ من التفصيل بين ما إذا كان
(صفحه 293)
قاصداً إتيان صلاة الظهر حين الشروع بصلاة الجمعة وبين ما إذا لم يكنقاصداً إتيانها حين الشروع بها، والحكم بالجواز في الصورة الثانية بخلافالاُولى، فإنّ معناه هو الاعتناء باحتمال الخلاف، وهذا ينافي معنى اعتبارالطريق وتنزيله بمنزلة العلم وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف.
ورابعاً: أنّه لا يتمّ ما ذكره قدسسره من الطوليّة بين مراتب الامتثال، فإنّ العقللايحكم إلاّ بلزوم الإطاعة، والإطاعة ليست إلاّ الإتيان بالمأمور به بجميعأجزائه وشرائطه، ومعه يسقط التكليف، وهذا المعنى يتحقّق في الامتثالالإجمالي بعد فرض إمكان الاحتياط، فلا فرق بين الامتثال الإجماليوالتفصيلي عقلاً.
وخامساً: أنّه على فرض صحّة هذا المبنى يختصّ بمن كان قاصداً إتيانصلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، ولا يشمل من لم يكن قاصداً لذلك ابتداء ولكنأتى بها لاحتمال وجوبها بعد الإتيان بصلاة الجمعة، ومعلوم أنّه لا مانع منالامتثال الاحتمالي، ونتيجة الامتثال التفصيلي والاحتمالي عبارة عن الامتثالالإجمالي.
ثمّ إنّه قد يقال بأنّ حسن الاحتياط مقيّد بعدم استلزامه اختلال النظام،وعليه فلابدّ من التبعيض في مقام الاحتياط؛ لأنّ الاحتياط التامّ في جميعالشبهات مستلزم لاختلال النظام القبيح عقلاً.
وفيه: أنّ الأحكام لا تتعدّى من عناوينها إلى عنوان آخر، وإن اتّحدالعنوانان وجوداً، فحرمة الإخلال بالنظام وقبحه لا توجب حرمة الاحتياطوقبحه وإن كان يتّحد معه وجوداً.
فتحصّل: أنّه لا إشكال في تماميّة كبرى حسن الاحتياط مطلقاً. نعم، قديقع البحث في بعض صغرياته من أنّه هل يمكن فيه الاحتياط أم لا؟ وهذا م