(صفحه 293)
قاصداً إتيان صلاة الظهر حين الشروع بصلاة الجمعة وبين ما إذا لم يكنقاصداً إتيانها حين الشروع بها، والحكم بالجواز في الصورة الثانية بخلافالاُولى، فإنّ معناه هو الاعتناء باحتمال الخلاف، وهذا ينافي معنى اعتبارالطريق وتنزيله بمنزلة العلم وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف.
ورابعاً: أنّه لا يتمّ ما ذكره قدسسره من الطوليّة بين مراتب الامتثال، فإنّ العقللايحكم إلاّ بلزوم الإطاعة، والإطاعة ليست إلاّ الإتيان بالمأمور به بجميعأجزائه وشرائطه، ومعه يسقط التكليف، وهذا المعنى يتحقّق في الامتثالالإجمالي بعد فرض إمكان الاحتياط، فلا فرق بين الامتثال الإجماليوالتفصيلي عقلاً.
وخامساً: أنّه على فرض صحّة هذا المبنى يختصّ بمن كان قاصداً إتيانصلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، ولا يشمل من لم يكن قاصداً لذلك ابتداء ولكنأتى بها لاحتمال وجوبها بعد الإتيان بصلاة الجمعة، ومعلوم أنّه لا مانع منالامتثال الاحتمالي، ونتيجة الامتثال التفصيلي والاحتمالي عبارة عن الامتثالالإجمالي.
ثمّ إنّه قد يقال بأنّ حسن الاحتياط مقيّد بعدم استلزامه اختلال النظام،وعليه فلابدّ من التبعيض في مقام الاحتياط؛ لأنّ الاحتياط التامّ في جميعالشبهات مستلزم لاختلال النظام القبيح عقلاً.
وفيه: أنّ الأحكام لا تتعدّى من عناوينها إلى عنوان آخر، وإن اتّحدالعنوانان وجوداً، فحرمة الإخلال بالنظام وقبحه لا توجب حرمة الاحتياطوقبحه وإن كان يتّحد معه وجوداً.
فتحصّل: أنّه لا إشكال في تماميّة كبرى حسن الاحتياط مطلقاً. نعم، قديقع البحث في بعض صغرياته من أنّه هل يمكن فيه الاحتياط أم لا؟ وهذا م
(صفحه294)
بحثناه مفصّلاً في مبحث القطع، فلا حاجة للإعادة.
التنبيه الثالث: في تقدّم الأصل الموضوعي على البراءة
لا شكّ في أنّ كلّ ما يكون بياناً وعلماً يتقدّم على البراءة، إمّا وروداً أوحكومةً، فإنّ موضوع البراءة العقليّة هو عدم البيان، وموضوع البراءةالشرعيّة هو عدم العلم، فمع مجيء البيان وتحقّق العلم يرتفع موضوع البراءة،وهذا من غير فرق بين أن تكون الشبهة موضوعيّة كما لو علم بخمريّة مائع ثمّشكّ في انقلابه خلاًّ فإنّ استصحاب الخمريّة يرفع موضوع أصالة البراءةويحكم بحرمة شربه، أو تكون حكميّة كما إذا شكّ في جواز وطء الحائض بعدانقطاع الدم، وقبل الاغتسال، فإنّ استصحاب الحرمة السابقة يمنع جريانالبراءة بارتفاع موضوعها.
وأيضاً من غير فرق بين أن يكون الأصل الحاكم منافياً في مفاده للبراءةكما مرّ في المثالين، أو موافقاً لها كما لو علم بخلّية مائع ثمّ شكّ في انقلابه خمراً،فإنّ استصحاب الخلّية مقدّم على البراءة.
ولكنّ الإشكال أنّه لا يبقى مع ذلك مورد أصلاً للبراءة، فمثلاً: مثل شربالتتن إمّا أنّه كان في الشرائع السابقة حلالاً وإمّا حراماً، وإمّا لا نعلم حكمه فيالشرائع السابقة، فنشكّ في جعل الحرمة له في شريعة الإسلام إمضاءً أوتأسيساً، فيجري الاستصحاب في جميع الصور، ولا يبقى محلّ للبراءة، بعد بيانحكم جميع الموضوعات المستحدثة في الشريعة إلى يوم القيامة بلحاظ كونهشريعة باقية خالدة، واستصحاب عدم جعل الحرمة حاكم في الموضوعاتالمستحدثة، إلاّ أن يناقش في أصل استصحاب العدم كما قال به بعض العلماء،خلافاً للمشهور.
(صفحه 295)
ثمّ إنّه رتّب على ما ذكرناه جريان أصالة عدم التذكية في الكلمات، كما إذشكّ في حلّية لحم الحيوان المتولّد من الكلب والغنم وحرمته من جهة الشكّ فيقابليته للتذكية، فيحكم على اللحم بالحرمة والنجاسة، ولا تصل النوبة إلىأصالتي الحليّة والطهارة؛ لحكومة أصالة عدم التذكية عليهما.
أقول: بسط الكلام في أصالة عدم التذكية موكول إلى محلّه، وهو بحثالاستصحاب، ولكن مع ذلك لا بأس بالبحث في اُمور ثلاثة:
الأوّل: في جريان استصحاب عدم القابليّة للتذكية وعدمه؟
الثاني: في جريان استصحاب العدم الأزلي عند الشكّ في القابليّة وعدمه؟
الثالث: في جريان استصحاب عدم التذكية وعدمه؟
أمّا الأمر الأوّل فقد قال المحقّق الحائري قدسسره بجريان استصحاب عدم القابليةللتذكية، وقال في مقام تصحيح الحالة السابقة المتيقّنة له: إنّ العرض قد يكونعارض الوجود وقد يكون عارض الماهيّة، وكلّ منهما ينقسم إلى اللازموالمفارق، فتكون الأقسام أربعة، ومن الواضح أنّ قابليّة الحيوان للتذكية منالعوارض اللاّزمة لوجود الحيوان، وليست من العوارض اللازمة لماهيّته، كمأنّ قرشيّة المرأة من العوارض اللاّزمة لوجودها، لا من العوارض اللازمةلماهيّتها.
وعليه فنقول: إنّ الحيوان المشكوك في قابليّته لم يكن قابلاً للتذكية قبلوجوده قطعاً، فنشكّ في أنّه حين تلبّسه بالوجود هل عرضت له القابليّة أم لا؟فنستصحب عدم عروضها له، ومع استصحاب عدم القابليّة نستغني عناستصحاب عدم التذكية لحكومته عليه حكومة الأصل السببي على المسبّبي،وهكذا في المرأة المشكوكة القرشيّة، فإنّ ماهيّة المرأة في رتبة متقدّمة علىالوجود لم تكن قرشيّة، وبعد تلبّسها بالوجود الخارجي نشكّ في أنّها هل
(صفحه296)
تلبّست بالقرشيّة أم لا؟ فنستصحب الحالة السابقة العدميّة ونحكم بعدمقرشيّتها.
وفيه: أوّلاً: أنّه لو سلّم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة، إلاّ أنّهلايجري استصحاب عدم القابليّة في حدّ نفسه؛ لكونه من الاُصول المثبتة،وذلك لأنّ القابليّة وعدمها ليست حكماً شرعيّاً، وإنّما هي أمر تكويني، كما أنّهليست موضوعاً للحكم الشرعي، فإنّ الموضوع للحكم هو المذكّى وغيرالمذكّى، حيث إنّ الأوّل موضوع للطهارة والحلّية، والثاني موضوع للنجاسةوالحرمة، ومن الواضح أنّ استصحاب كون الحيوان غير قابل للتذكية لا يثبتكونه غير مذكّى إلاّ بواسطة عقليّة، حيث إنّ انتفاء الجزء ـ أعني القابليّة يلازمه عقلاً انتفاء الكلّ ـ أعني التذكية ـ لأنّ التذكية عبارة عن فري الأوداج،والتسمية، وكون الذابح مسلماً، وكون الذبح بالحديد، وكونه إلى القبلة، وكونالحيوان قابلاً للتذكية.
وثانياً: أنّ أصل جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة محلّ الإشكالبلحاظ حالة سابقة متيقّنة كما نذكر توضيحه في الأمر الثاني.
وأمّا الأمر الثاني فالبحث عنه يقع في مقامين: الأوّل: في الوجوه المتصوّرةفي مجاري الاستصحاب في الأعدام الأزليّة، والثاني: في بيان حال كلّ واحدمن هذه الوجوه.
أمّا المقام الأوّل فنقول: إنّ مجاري الاستصحاب في الأعدام الأزليّة تتصوّرعلى وجوه:
الأوّل: القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهلّيّة البسيطة، مثل «زيد ليسبموجود»، ومفادها سلب الموضوع.
الوجه الثاني: القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهلّيّة المركّبة، مثل «ليس
(صفحه 297)
زيد بقائم» وصدق هذه القضيّة لا يتوقّف على وجود الموضوع؛ إذ سلبالمحمول يصدق مع انتفاء الموضوع أيضاً.
الوجه الثالث: القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهلّيّة المركّبة مقيّدة بوجودالموضوع، مثل: «زيد ليس بقائم» فهي لا تصدق إلاّ مع تحقّق الموضوع.
الوجه الرابع: القضيّة الموجبة المعدولة المحمول، مثل: «زيد لا قائم».
الوجه الخامس: القضيّة الموجبة السالبة المحمول، مثل: «زيد هو الذي ليسبقائم» بجعل القضيّة السالبة ـ هو الذي ليس بقائم ـ نعتاً للموضوع، ويكونالمفاد ربط السلب، ومن الواضح أنّ صدق هذا الوجه وما تقدّمه يتوقّف علىوجود الموضوع؛ إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.
الوجه السادس: المركّب الناقص النعتي، مثل: «زيد غير القائم»، فإنّه قضيّةناقصة لا يصحّ السكوت عليها، وصدقها يتوقّف على وجود الموصوف، كمهو واضح.
الوجه السابع: أن يكون مجرى الاستصحاب موضوعاً مركّباً من جزءين:أحدهما: أمر وجودي، والآخر: أمر عدمي، كسائر الموضوعات المركّبة التييشترط فيها إحراز جزئي الموضوع لكي يترتّب الحكم عليها.
وأمّا المقام الثاني فنقول: إنّ الوجوه الصادقة مع انتفاء الموضوع لا يمكن أنتقع موضوعاً لحكم إيجابي كالحرمة والنجاسة؛ لأنّ الحكم الإيجابي لا يصدقإلاّ مع وجود الموضوع.
وأمّا سائر الوجوه فلا يمكن أن تكون مجرى للاستصحاب، وذلك لعدمالحالة السابقة المتيقّنة في مورده، فإنّ الحيوان الذي نشكّ في قابليّته لم يكن فيزمان من أزمنة وجوده مورداً للعلم بأنّه غير قابل للتذكية حتّى يجريالاستصحاب.