(صفحه 295)
ثمّ إنّه رتّب على ما ذكرناه جريان أصالة عدم التذكية في الكلمات، كما إذشكّ في حلّية لحم الحيوان المتولّد من الكلب والغنم وحرمته من جهة الشكّ فيقابليته للتذكية، فيحكم على اللحم بالحرمة والنجاسة، ولا تصل النوبة إلىأصالتي الحليّة والطهارة؛ لحكومة أصالة عدم التذكية عليهما.
أقول: بسط الكلام في أصالة عدم التذكية موكول إلى محلّه، وهو بحثالاستصحاب، ولكن مع ذلك لا بأس بالبحث في اُمور ثلاثة:
الأوّل: في جريان استصحاب عدم القابليّة للتذكية وعدمه؟
الثاني: في جريان استصحاب العدم الأزلي عند الشكّ في القابليّة وعدمه؟
الثالث: في جريان استصحاب عدم التذكية وعدمه؟
أمّا الأمر الأوّل فقد قال المحقّق الحائري قدسسره بجريان استصحاب عدم القابليةللتذكية، وقال في مقام تصحيح الحالة السابقة المتيقّنة له: إنّ العرض قد يكونعارض الوجود وقد يكون عارض الماهيّة، وكلّ منهما ينقسم إلى اللازموالمفارق، فتكون الأقسام أربعة، ومن الواضح أنّ قابليّة الحيوان للتذكية منالعوارض اللاّزمة لوجود الحيوان، وليست من العوارض اللازمة لماهيّته، كمأنّ قرشيّة المرأة من العوارض اللاّزمة لوجودها، لا من العوارض اللازمةلماهيّتها.
وعليه فنقول: إنّ الحيوان المشكوك في قابليّته لم يكن قابلاً للتذكية قبلوجوده قطعاً، فنشكّ في أنّه حين تلبّسه بالوجود هل عرضت له القابليّة أم لا؟فنستصحب عدم عروضها له، ومع استصحاب عدم القابليّة نستغني عناستصحاب عدم التذكية لحكومته عليه حكومة الأصل السببي على المسبّبي،وهكذا في المرأة المشكوكة القرشيّة، فإنّ ماهيّة المرأة في رتبة متقدّمة علىالوجود لم تكن قرشيّة، وبعد تلبّسها بالوجود الخارجي نشكّ في أنّها هل
(صفحه296)
تلبّست بالقرشيّة أم لا؟ فنستصحب الحالة السابقة العدميّة ونحكم بعدمقرشيّتها.
وفيه: أوّلاً: أنّه لو سلّم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة، إلاّ أنّهلايجري استصحاب عدم القابليّة في حدّ نفسه؛ لكونه من الاُصول المثبتة،وذلك لأنّ القابليّة وعدمها ليست حكماً شرعيّاً، وإنّما هي أمر تكويني، كما أنّهليست موضوعاً للحكم الشرعي، فإنّ الموضوع للحكم هو المذكّى وغيرالمذكّى، حيث إنّ الأوّل موضوع للطهارة والحلّية، والثاني موضوع للنجاسةوالحرمة، ومن الواضح أنّ استصحاب كون الحيوان غير قابل للتذكية لا يثبتكونه غير مذكّى إلاّ بواسطة عقليّة، حيث إنّ انتفاء الجزء ـ أعني القابليّة يلازمه عقلاً انتفاء الكلّ ـ أعني التذكية ـ لأنّ التذكية عبارة عن فري الأوداج،والتسمية، وكون الذابح مسلماً، وكون الذبح بالحديد، وكونه إلى القبلة، وكونالحيوان قابلاً للتذكية.
وثانياً: أنّ أصل جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة محلّ الإشكالبلحاظ حالة سابقة متيقّنة كما نذكر توضيحه في الأمر الثاني.
وأمّا الأمر الثاني فالبحث عنه يقع في مقامين: الأوّل: في الوجوه المتصوّرةفي مجاري الاستصحاب في الأعدام الأزليّة، والثاني: في بيان حال كلّ واحدمن هذه الوجوه.
أمّا المقام الأوّل فنقول: إنّ مجاري الاستصحاب في الأعدام الأزليّة تتصوّرعلى وجوه:
الأوّل: القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهلّيّة البسيطة، مثل «زيد ليسبموجود»، ومفادها سلب الموضوع.
الوجه الثاني: القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهلّيّة المركّبة، مثل «ليس
(صفحه 297)
زيد بقائم» وصدق هذه القضيّة لا يتوقّف على وجود الموضوع؛ إذ سلبالمحمول يصدق مع انتفاء الموضوع أيضاً.
الوجه الثالث: القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهلّيّة المركّبة مقيّدة بوجودالموضوع، مثل: «زيد ليس بقائم» فهي لا تصدق إلاّ مع تحقّق الموضوع.
الوجه الرابع: القضيّة الموجبة المعدولة المحمول، مثل: «زيد لا قائم».
الوجه الخامس: القضيّة الموجبة السالبة المحمول، مثل: «زيد هو الذي ليسبقائم» بجعل القضيّة السالبة ـ هو الذي ليس بقائم ـ نعتاً للموضوع، ويكونالمفاد ربط السلب، ومن الواضح أنّ صدق هذا الوجه وما تقدّمه يتوقّف علىوجود الموضوع؛ إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.
الوجه السادس: المركّب الناقص النعتي، مثل: «زيد غير القائم»، فإنّه قضيّةناقصة لا يصحّ السكوت عليها، وصدقها يتوقّف على وجود الموصوف، كمهو واضح.
الوجه السابع: أن يكون مجرى الاستصحاب موضوعاً مركّباً من جزءين:أحدهما: أمر وجودي، والآخر: أمر عدمي، كسائر الموضوعات المركّبة التييشترط فيها إحراز جزئي الموضوع لكي يترتّب الحكم عليها.
وأمّا المقام الثاني فنقول: إنّ الوجوه الصادقة مع انتفاء الموضوع لا يمكن أنتقع موضوعاً لحكم إيجابي كالحرمة والنجاسة؛ لأنّ الحكم الإيجابي لا يصدقإلاّ مع وجود الموضوع.
وأمّا سائر الوجوه فلا يمكن أن تكون مجرى للاستصحاب، وذلك لعدمالحالة السابقة المتيقّنة في مورده، فإنّ الحيوان الذي نشكّ في قابليّته لم يكن فيزمان من أزمنة وجوده مورداً للعلم بأنّه غير قابل للتذكية حتّى يجريالاستصحاب.
(صفحه298)
وأمّا ما ذكره المحقّق الحائري قدسسره من الإشارة إلى ماهيّة المرأة بأنّ هذه المرأةلم تكن قرشيّة، وإذا شككنا بعد وجودها في قرشيّتها نستصحب عدم قرشيّتهالسابقة.
ففيه: أوّلاً: أنّ ماهيّة المرأة قبل وجودها ليست بشيء حتّى تجعلها مشارإليها؛ إذ لا تحقّق لها ولا ثبوت لها قبل الوجود.
وثانياً: أنّه يتنافى مع ما صرّح به من أنّ القرشيّة من عوارض الوجودالخارجي، فلا محالة يكون عدمها قبل الوجود بعنوان السالبة بانتفاءالموضوع.
وأمّا الوجه السابع: فقد يقال بتماميّة الاستصحاب فيه، وذلك لأنّ مجرىالاستصحاب موضوع مركّب من جزءين: الحيوان وعدم القابليّة للتذكية،والجزء الأوّل محرز بالوجدان كما هو واضح، والجزء الثاني محرزبالاستصحاب لمكان الحالة السابقة كما هو الشأن في العدميّات، ومع إحرازكلا الجزءين يترتّب الأثر من الحرمة والنجاسة.
وفيه: أنّ الجزء الثاني لا يخلو من وجهين، فإمّا أن يكون مطلق عدمالقابليّة للتذكية مع غضّ النظر عن الجزء الأوّل ومستقلاًّ عنه، وإمّا أن تكونجزئيّته مع الاحتفاظ على تحقّق الجزء الأوّل والارتباط به، فعلى الأوّل ليكون قابلاً للتصوير، وعلى الثاني يلزم رجوع الوجه السابع إلى أحد الوجوهالثلاثة السابقة؛ إذ الارتباط والعلاقة بين الجزءين إمّا أن تكون بنحو الموجبةالمعدولة أو الموجبة السالبة المحمول أو التقييد النعتي، وقد عرفت عدم تماميّةالاستصحاب فيها.
وأمّا الأمر الثالث فالصحيح عدم جريان استصحاب عدم التذكية لنفسالبيان المتقدّم في الأمر الثاني؛ لأنّ عدم التذكية إن كان بنحو السلب التحصيلي
(صفحه 299)
المطلق الصادق مع انتفاء الموضوع فلا يصحّ جعله موضوعاً للحكم الشرعي،وإن كان بنحو سائر القضايا المذكورة فلا تكون حالة سابقة متيقّنة فيموردها.
والحاصل: أنّ استصحاب عدم قابليّة التذكية لا يكون جارياً، فلا مانع منجريان أصالة البراءة وأصالة الإباحة.
التنبيه الرابع: في أخبار من بلغ
وقبل التعرّض للأقوال لا بأس بإيراد بعض روايات الباب:
منها: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «من بلغه عنالنبيّ صلىاللهعليهوآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبيّ صلىاللهعليهوآله كان له ذلك الثواب وإنكان النبيّ صلىاللهعليهوآله لم يقله»(1).
ومنها: حسنة هشام بن سالم عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «من سمع شيئاً منالثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه»(2).
ومنها: رواية محمّد بن مروان، قال: سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول: «من بلغهثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اُوتيه وإن لم يكنالحديث كما بلغه»(3).
إلى غير ذلك من الأخبار التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي قدسسره تحت عنواناستحباب الإتيان بكلّ عمل مشروع روي له ثواب منهم عليهمالسلام في مقدّمة كتابوسائل الشيعة.
أقول: قد اختلف الأصحاب فيما يستفاد من هذه الأخبار على أقوال:
- (1) الوسائل 1: 81، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 4.
- (2) المصدر السابق: 82، الحديث 6.
- (3) المصدر السابق: الحديث 7.