(صفحه300)
الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدسسره (1) من أنّ المستفاد منها هواستحباب نفس العمل بعنوانه الأوّلي، لا بالعنوان الثانوي الطارئ عليه ـ أعنيعنوان بلوغ الثواب عليه ـ إذ ترتّب الأجر على نفس العمل يكشف عنمطلوبيّة ذات العمل بعنوانه الأوّلي، فيكون العمل البالغ عليه الثواب مستحبّشرعيّاً بالعنوان الأوّلي كسائر المستحبّات الشرعيّة، وأمّا عنوان «طلب قولالنبيّ صلىاللهعليهوآله » أو «التماس ذلك الثواب» فهو خارج عن متعلّق الطلبالاستحبابي، وليس إلاّ داعياً لإيجاد العمل في الخارج، ومن المعلوم أنّ الداعيخارج عن متعلّق الطلب، فالمستحبّ هو العمل بعنوانه الأوّلي.
وإن شئت قلت: إنّ العنوان المذكور جهة تعليليّة للعمل وليس جهةتقييديّة.
وفيه: أنّ ترتّب الثواب على عمل أعمّ من الاستحباب الشرعي، والأعمّلايثبت الأخصّ، فإنّ ترتّب الثواب على عمل تارةً يكون لأجل كونه محبوبنفسيّاً وذا رجحان ذاتي فيثبت الاستحباب الشرعي، واُخرى يكون لأجلالتحفّظ على ما هو محبوب واقعاً، وفي مثله لا يثبت الاستحباب كما هوواضح.
القول الثاني: ما ذهب إليه المحقّق النائيني قدسسره (2) من أنّ الأخبار مسوقة لبياناعتبار قول المبلّغ وحجّيته، سواء كان واجداً لشرائط الحجّية أم لم يكن كمهو ظاهر الإطلاق، وعليه فتكون أخبار من بلغ مخصّصة لما دلّ على اعتبارالوثاقة أو العدالة في الخبر، وأنّها تختصّ بالخبر القائم على وجوب الشيء،وأمّا الخبر القائم على الاستحباب فلا يعتبر فيه ذلك. وظاهر عناوين كلمات
- (1) كفاية الاُصول 2: 197.
- (2) فوائد الاُصول 3: 413 ـ 414.
(صفحه 301)
القوم ينطبق على هذا المعنى، فإنّ الظاهر من قولهم: «يتسامح في أدلّة السنن»هو أنّه لا يعتبر في أدلّة السنن ما يعتبر في أدلّة الواجبات.
إن قلت: كيف تكون أخبار «من بلغ» مخصّصة لما دلّ على اعتبار الشرائطفي حجّية الخبر مع أنّ النسبة بينهما العموم من وجه، حيث إنّ ما دلّ علىاعتبار الشرائط يعمّ الخبر القائم على الوجوب وعلى الاستحباب، وأخبار«من بلغ» وإن كانت تختصّ بالخبر القائم على الاستحباب، إلاّ أنّه أعمّ من أنيكون واجداً للشرائط أو فاقداً لها، ففي الخبر القائم على الاستحباب الفاقدللشرائط يقع التعارض، فلا وجه لتقديم أخبار «من بلغ» على ما دلّ علىاعتبار الشرائط في الخبر؟
قلت: مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ أخبار «من بلغ» ناظرة إلى إلغاء الشرائطفي الأخبار القائمة على المستحبّات، فتكون حاكمة على ما دلّ على اعتبارالشرائط في أخبار الآحاد، وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة؛ لأنّ الترجيحلأخبار «من بلغ» لعمل المشهور بها، مع أنّه لو قدّم ما دلّ على اعتبارالشرائط في مطلق الأخبار لم يبق لأخبار «من بلغ» مورد، بخلاف ما لوقدّمت أخبار «من بلغ» على تلك الأدلّة، فإنّ الواجبات والمحرّمات تبقىمشمولة لها.
ويرد عليه: أوّلاً: عدم تماميّة أصل الدعوى، يعني كون الأخبار في مقامبيان حجّية مطلق الأخبار بالنسبة إلى المستحبّات، فإنّها بعيدة عن ظاهرأخبار «من بلغ» جدّاً، فإنّ معنى الحجّية عنده قدسسره هو إلغاء احتمال الخلاف،وفرض مؤدّى الأمارة هو الواقع، وهذا ينافي فرض عدم ثبوت المؤدّى فيالواقع كما هو مفاد أخبار «من بلغ» بتعبيرات مختلفة، مثل: «وإن كان النبيّ صلىاللهعليهوآله لم يقله» ومثل: «وإن لم يكن الحديث كما بلغه»، وعليه فأخبار «من بلغ»
(صفحه302)
أجنبيّة عن إعطاء الحجّية للخبر الضعيف، وهكذا بناءً على أن تكون الحجّيةبمعنى المنجّزية والمعذّرية؛ إذ لا معنى للمعذّرية في المستحبّات إذا كان الخبرمخالفاً للواقع، فإنّ لازم ذلك عدم ترتّب الثواب في هذه الصورة، مع أنّالغرض في الأخبار هو ترتّب الثواب في صورة كذب الخبر.
وثانياً: أنّ مخصّصية أخبار «من بلغ» لأدلّة الحجّية إنّما يصحّ فيما إذا كانهناك تنافٍ بين الدليلين، ومن الواضح أنّه لا تنافي بين أن يكون خبر الثقةحجّة مطلقاً، وبين أن يكون مطلق الخبر حجّة في المستحبّات، وعليه فلينجرّ الأمر إلى التخصيص.
وثالثاً: أنّ حكومة أخبار «من بلغ» على أدلّة الحجّية في صورة التعارضفي مادّة الاجتماع ليست تامّة، فإنّ قوام الحكومة هو تعرّض أحد الدليلينلحال الدليل الآخر من تفسير أو توضيح أو تصرّف في جهة من جهاته، وفيمنحن فيه ليس الأمر كذلك، فإنّ أخبار «من بلغ» مفادها حجّية مطلق الخبر فيالمستحبّات، ومفاد أدلّة الحجّية هو حجّية خبر الثقة مطلقاً، من دون تعرّضأحدهما إلى حال الآخر.
ورابعاً: أنّ خلوّ أخبار «من بلغ» من المصداق والمورد فيما لو قدّمت أدلّةشرائط الحجّية في مورد ليس بتام، فإنّ مدّعاه قدسسره هو استفادة حجّية مطلقالخبر ـ ثقة كان أو غيره ـ من أخبار «من بلغ»، وعليه فلو خرج موردالتعارض ـ أي خبر غير الثقة في المستحبّات ـ عن الاندراج تحت إطلاقأخبار «من بلغ» يبقى الفرد الآخر ـ وهو خبر الثقة ـ تحته، ومن الواضح أنّه ليشترط أن يكون المورد الباقي ممّا يختصّ بأخبار «من بلغ» ولا تشمله أدلّةالحجّية، ولا يخفى أنّ أخبار «من بلغ» ليست في رتبة متأخّرة عن أدلّة الحجّيةحتّى يكون شمولها لخبر الثقة الوارد في المستحبّات لغواً وبلا أثر، بل تكون
(صفحه 303)
هي في رتبتها وعرضها.
القول الثالث: أنّ مفاد هذه الأخبار هو استحباب العمل مقيّداً بعنوان«بلوغ الثواب عليه»، فيكون العنوان من الجهات التقييديّة والعناوين الثانويّةالمغيّرة لأحكام العناوين الأوّلية كالضرر والحرج والخطأ والنسيان والجهلونحو ذلك، فيكون عنوان بلوغ الثواب ممّا يوجب حدوث مصلحة في العمل،بها يصير مستحبّاً.
وفيه: أوّلاً: أنّ العنوان الثانوي عنوان سلبي يتحقّق بالنسبة إلى العمل أوالحكم، كما نراه في حديث الرفع وأمثال ذلك، ولا يكون عنواناً إثباتيّاً اُسندإلى شخص كما يكون هنا كذلك.
وثانياً: أنّ مع قطع النظر عن هذا الإشكال لا تدلّ التعبيرات الواردة فيالروايات على هذا المعنى، فيحتاج إلى الإثبات.
القول الرابع: ما أفاده اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) من أنّ وزان أخبار «منبلغ» وزان الجعالة، فكما أنّ قول القائل: «من ردّ ضالّتي فله كذا» جعل المعلّقعلى ردّ الضالّة، فكذلك مفاد الأخبار جعل المعلّق على إتيان العمل بعد البلوغبرجاء الثواب، وإنّما جعل الشارع الثواب على ذلك حثّاً منه على التحفّظبعامّة السنن والمستحبّات، حيث رأى أنّ الاكتفاء في طريق تحصيلها علىخصوص الأمارات المعتبرة ربما يوجب تفويت البعض الموجود في غيرها منالأمارات، ولأجل ذلك حثّ الناس على إتيان كلّ ما نقل عنهم عليهمالسلام ، خالفالواقع أو طابقه، وأردف حثّه هذا بالثواب على العمل لكي يحدث الشوق فينفس المكلّف إلى إتيانه، كلّ ذلك تحفّظاً على المستحبّات الواقعيّة، وعليهفتكون أخبار «من بلغ» مطلقة بالنسبة إلى كلّ ما بلغ عليه ثواب بسند معتبر
- (1) تهذيب الاُصول 2: 233 ـ 234.
(صفحه304)
كان أو بغيره، من دون أن تكون لها دلالة على حجّية خبر الضعيف فيالمستحبّات أو على استحباب العمل؛ إذ فرق بين ترتّب الثواب على عمللمحبوبيّته في ذاته ورجحانه في نفسه كما في سائر المستحبّات الشرعيّة، وبينترتّب الثواب على الشيء لأجل التحفّظ على الواقع وإدراك المكلّف له.
والإنصاف أنّ هذا كلام صحيح وقابل للمساعدة ولا إشكال فيه.
هذا تمام الكلام في تنبيهات البراءة، وبه يتمّ البحث عن أصالة البراءة، وللّهالحمد أوّلاً وآخراً.