(صفحه 335)
الشبهات البدويّة، فإنّ الترخيص في مطلقها مع ثبوت الحكم الواقعي في بعضمواردها إنّما هو لأجل أنّه رفع اليد عن الحكم الواقعي لمصلحة أهمّ.
وربّما يقال: إنّ الترخيص والإذن في الارتكاب يكون ترخيصا في المعصيةالتي هي قبيحة عند العقل، وهو لايصدر من الحكيم، مضافا إلى لزومالمناقضة؛ لعدم إمكان اجتماع المعصية مع الترخيص فيها بعد كونها متوقّفة علىتكليف المولى.
وجوابه: أوّلاً: بالنقض في الشبهات البدويّة، بأنّ جريان حديث الرفعوترخيص شرب (التتن) مثلاً، كيف يكون قابلاً للاجتماع مع حرمته بحسبالواقع؟ وبما ذكرت من الجواب هناك نقول به هنا.
وثانيا: بالحلّ بأنّ القبيح والموجب لاستحقاق العقوبة هي مخالفة التكليفالواقعي الذي كان مطلوبا للمولى ولم يرفع يده عنه لمصلحة اُخرى أهمّ، كما فيمثال حفظ الولد، وأمّا مخالفة التكليف الواقعي الذي يكون قد رفع اليد عنهلمصحلة التسهيل على العباد ـ مثلاً ـ ، فلا تكون قبيحة، ولا موجبة لاستحقاقالعقوبة أصلاً، فالترخيص في مخالفة الإمارة التي هي طريق إلى الواقع وجوازعدم المشي على طبقها لمصلحة اُخرى لايكون معصية ولا قبح فيه، ورفعالمناقضة يكون بعدم تنجّز الحكم الواقعي في الشبهة، وكذا في الشبهة المقرونةبالعلم الإجمالي.
والحاصل: أن العقل قبل ورود الترخيص وإن كان يحكم بلزوم العمل علىطبق الحجّة الإجماليّة ووجوب المشي معها بالاحتياط، إلاّ أنّه لا مانع عندهمن ورود الترخيص من المولى ولو في جميع الأطراف.
فلا نقول: بأنّ الأدلّة المرخّصة مقيّدة للإطلاق أو العموم الشاملين لحالالعلم الإجمالي بصورة العلم التفصيلي بالحكم أو الموضوع، وهكذا لانقول
(صفحه336)
بكونها مقيّدة لحجّيّة الأمارة بصورة العلم التفصيلي بقيامها؛ لأنّ لازم ذلكاختصاص الإرادة الجدّيّة ومحدوديّتها بالمقيّد من الابتداء وكون الإطلاق أوالعموم تخيّليّا، بل نقول ببقاء الإطلاق أو العموم أو الأمارة بحاله من حيثالإرادة الجدّيّة، إلاّ أنّ المولى رفع اليد عنها وجعل الترخيص لمصلحة أهمّ.
(صفحه 337)
المخالفة القطعيّة
الروايات الدالّة على الترخيص في أطراف العلم الإجمالي
إنّما الكلام في صدور الدليل المرخّص من المولى في أطراف العلم الإجماليالمتعارف ـ أي المستند إلى الحجّة والأمارة الشرعيّة ـ ويمكن أن يقال باستفادةالترخيص في الارتكاب وجعل الحلّيّة فيها من أدلّة أصالة الحلّيّة الجارية فيالشبهات التحريميّة.
منها: مرسلة معاوية بن عمّارعن رجل من أصحابنا، قال: كنت عند أبيجعفر عليهالسلام فسأله رجل عن الجبن، فقال أبوجعفر عليهالسلام : «إنّه لطعام يعجبني،ساُخبرك عن الجبن وغيره: كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتّىتعرف الحرام فتدعه بعينه»(1).
ومنشأ توهّم الحلّيّة والحرمة في الجبن هي الأنفحة التي تكون جزءا منأجزاء الحيوان، وتستفاد في صناعة الجبن، ويمكن أن تؤخذ من الميتة، فلذينقسم الجبن إلى الحلال والحرام، ولكن لا خلاف بين علماء الشيعة في طهارةالجبن المأخوذ من أنفحة الميتة؛ لكونها من الأجزاء المحكومة بالطهارة، فلابدّمن حمل الرواية على التقيّة؛ إذ الجبن عندنا قسم واحد.
- (1) الوسائل 25: 119، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7.
(صفحه338)
وقد وردت هذه الكلّيّة في رواية عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال:«كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينهفتدعه»(1).
والاحتمالات الواردة في صدر الروايتين مع قطع النظر عن الغاية المذكورةفيهما ثلاثة:
أحدها: أن يكون المراد بالشيء هي الطبيعة الواحدة التي يوجد فيهالحلال باعتبار بعض أنواعه والحرام باعتبار بعضها الآخر، وحينئذ فيصيرالمراد أنّ هذه الطبيعة الواحدة لك حلال حتّى تعرف نوعها الحرام بعينه،وحينئذ فيختصّ بالشبهات البدويّة، ولا يشمل صورة العلم الإجماليوالشبهات المحصورة.
ثانيها: أن يكون المراد بالشيء مجموع الشيئين أو الأشياء التي يعلم بوجودالحرام بينهما أو بينها إجمالاً، وحينئذ فينحصر موردها بأطراف العلم الإجمالي.
ثالثها: أن يكون المراد به أعمّ من القسم الأوّل والثاني، فتشمل الروايتانالشبهات البدويّة والمحصورة جميعا.
وأمّا بالنسبة إلى ذيل الروايتين ـ أي «حتّى تعرف الحرام» ـ فإن كان المرادبالشيء هو الاحتمال الأوّل فيمكن أن يكون المراد بالمعرفة أعمّ من المعرفةالتفصيليّة والإجماليّة؛ إذ العلم الإجمالي معرفة كما أنّ العلم التفصيلي معرفة، فلترخيص في مورد العلم الإجمالي؛ لدخوله أيضا في الغاية، ولكن هذا الاحتمالأبعد الاحتمالات الثلاثة.
وإن كان المراد به هو الاحتمال الثاني فاللازم أن يكون المراد بالمعرفة،المعرفة التفصيليّة؛ لكون المغيّا عبارة عن العلم الإجمالي بوجود الحرام بين
- (1) الوسائل 17: 87 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(صفحه 339)
الأشياء، فلابدّ من كون الغاية عبارة عن العلم التفصيلي.
كما أنّه بناء على الاحتمال الثالث لابدّ أن يكون المراد بها هذه المعرفة؛لاستهجان جعل الغاية للشبهة البدوية أعمّ من المعرفة الإجماليّة، مع أنّ المغيّشامل لصورة العلم الإجمالي أيضا، فلابدّ أن يكون المراد من الغاية بالنسبةإليها المعرفة التفصيليّة.
وكيف كان، فالروايتان بناءً على الاحتمالين الأخيرين تدلاّن على جعلالحلّيّة والترخيص في أطراف العلم الإجمالي.
والظاهر أن الاحتمالين الأخيرين أقرب من الأوّل؛ إذ المستفاد من قوله:«كلّ شيء فيه حلال وحرام» أنّه مورد ابتلاء المكلّف بالفعل من حيث الحلّيّةوالحرمة.
ومثل الروايتين المذكورتين في الدلالة على جعل الحلّيّة والترخيص روايةمسعدة بن صدقة عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: سمعته يقول: «كلّ شيء هو لك حلالحتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليكقد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك، ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيعقهرا، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا، حتّىيستبين لك غيرذلك أو تقوم به البيّنة»(1).
فإنّ المراد بالشيء هو كلّ ما شكّ في حلّيّته وحرمته، والغاية هو العلمبحرمة نفس ذلك الشيء المشكوك، فتشمل الشبهة المحصورة المقرونة بالعلمالإجمالي؛ لكون كلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي مشكوك الحلّيّة والحرمة،فلا إشكال بالنسبة إلى صدر الرواية من حيث جعل الحلّيّة والترخيصبعنوان الضابطة.
- (1) الوسائل 17: 89 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.