(صفحه340)
ولكنّها غيرقابلة للاعتماد؛ لأنّ الأمثلة المذكورة فيها لاتكون الحلّيّة فيهمستندة إلى قاعدة الحلّيّة المجعولة في الصدر، بل الحلّيّة فيها لأجل وجودبعض الأمارات أو الاُصول المتقدّمة على قاعدة الحلّيّة في موردها، مثل: اليدفي مورد احتمال سرقة الثوب، وإقرار العقلاء على أنفسهم في مورد احتمالحرّيّة المملوك، واستصحاب عدم كونها رضيعة له، وكذا استصحاب عدمكونها اُختا له، بناء على جريانه على خلاف ما هو الحقّ.
والحاصل: أن جعل قاعدة كلّيّة ثمّ إيراد أمثلة لها خارجة عنها داخلة فيقواعد اُخر مستهجن لايصدر عن مثل الإمام عليهالسلام ، فالرواية من هذه الجهةموهونة جدّا.
وهكذا رواية معاوية بن عمّار؛ لكونها مرسلة، فلا يجوز الاعتماد عليها.
وهكذا رواية عبداللّه بن سليمان الواردة في الجبن المشتملة على هذه القاعدةالكلّيّة، فإنّ عبداللّه بن سليمان مجهول، فلميبقَ في البين إلاّ رواية عبداللّه بنسنان المتقدّمة، وهي صحيحة من حيث السند، تامّة من حيث الدلالة، خاليةمن احتمال الصدور تقيّة؛ لعدم مورد لها.
ولقائل أن يقول بكفاية هذه الرواية لجواز الترخيص في أطراف العلمالإجمالي، مع أنّ العقل لايأبى عنه؛ لعدم كون الترخيص فيه ترخيصا فيالمعصية بنظره.
وجوابه: أنّ المتّبع في مداليل الروايات هو فهم العرف والعقلاء، والمتفاهممن مثل هذه الرواية عندهم هو الترخيص في المعصية، وهو ـ مضافا إلىقبحه ـ غير معقول؛ لاستلزامه التناقض كما عرفت سابقا فلابدّ من رفع اليدعنها من حيث الحكم بالترخيص في أطراف العلم الإجمالي واختصاصهبالشبهات البدويّة.
(صفحه 341)
وأضف إلى ذلك ما حكي عن صاحب الجواهر من ندور العامل بمثل هذهالرواية والأخذ بمضمونها(1)، فكيف يمكن الاستناد إليها بعنوان الدليلالمرخّص هنا مع ندرة العمل بها عند الإماميّة؟ فلا مجال لجريان أصالة الحلّيّةفي موارد الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي. وكذا أصالة البراءة؛ لأنّ مفاد أدلّتههو جعل التوسعة للناس وعدم التضييق عليهم في موارد الجهل وعدم العلم،والحكم في الشبهة المحصورة معلوم، إجمالاً، ولا يجتمع الترخيص في جميعالأطراف عند العرف والعقلاء مع العلم بعدم الرخصة في بعضها إجمالاً، بعدكون مورد الترخيص هو صورة الجهل وعدم العلم.
رأي الشيخ الأعظم في وجه عدم جريان الاُصول في أطراف العلمالإجمالي:
وقد اختلفت كلمات الشيخ رحمهالله في وجه عدم جريان الاُصول في أطرافالعلم الإجمالي، فظاهر كلامه في مبحث الاشتغال(2) وصريح كلامه في أواخرالاستصحاب(3) أنّ المانع من جريان الاُصول في أطرافه هو لزوم التناقض منجريانها على فرض الشمول؛ لأنّ قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضهبيقين آخر» ـ مثلاً ـ يدلّ على حرمة النقض بالشكّ، ووجوب النقض باليقين،فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز، إبقاءكلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ؛ لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقضاليقين بمثله، فالمانع عنده حينئذ هو جهة الإثبات وعدم شمول الأدلّة لأطرافالعلم الإجمالي؛ للزوم التناقض.
وعلى هذا المبنى لافرق في لزوم التناقض بين كون الحالة السابقة في أطراف
- (1) جواهر الكلام 1: 294 ـ 298.
- (2) فرائد الاُصول 2: 404.
- (3) فرائد الاُصول 2: 744 ـ 745.
(صفحه342)
العلم الإجمالي عبارة عن الطهارة أو النجاسة.
ولكن يظهر من كلامه رحمهالله في بحث القطع(1) وفي بعض المواضع الاُخر أنّالمانع هو لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة، وحينئذ فالمانع هو عدم إمكان الجعلثبوتا، ولازم هذا المبنى أنّ الحالة السابقة في الإنائين المشتبهين إن كانتالنجاسة وعلمنا إجمالاً بطهارة أحدهما، وبعد جريان استصحاب النجاسةفيهما والاجتناب عنهما لاتلزم المخالفة العمليّة، فينحصر لزوم المخالفة في صورةكون الحالة السابقة فيهما الطهارة.
وجوابه: أنّ المانع إن كان من جهة الثبوت وعدم إمكان الجعل فقد ذكرنأنّ الترخيص في أطراف العلم الإجمالي لايكون ترخيصا في المعصية، وأنّعنوان المعصية لا ينطبق على كلّ مخالفة؛ لإمكان رفع اليد عن التكليفلمصلحة أهمّ، بل ينطبق على مخالفة تكليف أحرزنا عدم رفع اليد عنه منالمولى بأيّ نحو من الأنحاء، كما مرّ بيانه.
وإن كان المانع من جهة الإثبات وقصور الأدلّة عن الشمول فنسأل: أنّالمراد باليقين المأخوذ في قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ» هل هو اليقينالوجداني أو الحجّة المعتبرة، يقينيّا كانت أو غيره؟
فعلى الأوّل نقول: إنّ الحكم بحرمة نقض اليقين الوجداني بالشكّ وإن كانقابلاً للجعل، إلاّ أنّ الحكم بوجوب نقض اليقين بيقين آخر مثله لايكون قابلللجعل بعد كون حجّيّة القطع غيرقابلة للإثبات ولا للنفي كما تقدّم في مبحثالقطع، فقوله: «ولكن انقضه بيقين آخر» لايكون بصدد جعل حكم آخر حتّىيتحقّق التناقض بينه وبين الحكم الأوّل على تقدير جريانه في أطراف العلمالإجمالي، بل بصدد تحديد الحكم المجعول أوّلاً، وأنّ حرمة النقض بالشكّ
(صفحه 343)
تكون ثابتة إلى أن يجيء يقين آخر، فظهر أنّه بناء على هذا الاحتمال لاتكونالرواية مشتملة على حكمين حتّى يتحقّق مورد التناقض وعدمه صدرا وذيلاً.
وعلى الاحتمال الثاني أيضا لاتكون الرواية كذلك؛ لأنّ الحكم بوجوبنقض الحجّة المعتبرة غير القطع بحجّة اُخرى وإن كان قابلاً للجعل والتشريع،إلاّ أنّه باعتبار كون القطع أيضاً من أفراد الحجّة المعتبرة لايمكن هذا التشريع،وجعل الحكم بالنسبة إلى بعض أفراد الحجّة وبيان التحديد بالنسبة إلىبعضها الآخر ممّا لايكون لهما جامع حتّى يمكن في استعمال واحد، فلا يتحقّقفي أدلّة الاستصحاب الحكمان حتّى يستلزم التناقض بينهما في المقام،كما لا يخفى.
هذا كلّه، مضافا إلى أنّه لو سلّم جميع ذلك نقول: ظاهر سياق الرواية أنّالمراد باليقين في قوله: «ولكن انقضه بيقين آخر» هو اليقين بما تعلّق به اليقينوالشكّ في قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ»، لااليقين بأمر آخر؛ ضرورة عدموجوب النقض باليقين المتعلّق بشيء آخر.
وحينئذ نقول: في موارد العلم الإجمالي لايكون العلم الإجمالي متعلّقبنفس ما تعلّق به اليقين السابق، فلا يجب نقضه به.
ألاترى أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين اللذين علم بطهارتهمسابقا لا يكون العلم الإجمالي متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين السابق؛ ضرورةأنّ اليقين السابق إنّما تعلّق بطهارة هذا الإناء بالخصوص، وبطهارة ذاك الإناءكذلك، ولم يتحقّق بعد يقين بنجاسة واحد معيّن منهما حتّى يجب نقض اليقينالسابق باليقين اللاحق، بل الموجود هو اليقين بنجاسة أحدهما المردّد، وهو لميكن مسبوقا باليقين بالطهارة، فمتعلّق اليقين السابق واللاحق مختلف، فلا يجبالنقض به.
(صفحه344)
والحاصل: أنّ أدلّة الاستصحاب تجري في المقام ولا يلزم التناقض أصلاً.
ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمهالله فصّل بين الاُصول التنزيليّة ـ كالاستصحاب وغيرها ـ كأصالة الإباحة ـ وحكم بجريان الاُولى مطلقا في أطراف العلمالإجمالي، من غيرفرق بين أن يلزم من جريان الأصلين مخالفة عمليّة أم لا،وبعدم جريان الثانية إذا لزم من جريانها مخالفة عمليّة قطعيّة للتكليف المعلومفي البين.
وقال في وجه ذلك ما ملخّصه: إنّ المجعول في الاُصول التنزيليّة إنّما هوالبناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع، وإلغاء الطرفالآخر، وجعل الشكّ كالعدم في عالم التشريع، فإنّ ظاهر قوله عليهالسلام : «لاتنقضاليقين بالشكّ» هو البناء العملي على بقاء المتيقّن وتنزيل حال الشكّمنزلةحال اليقين، وهذا المعنى لايمكن جعله بالنسبة إلى جميع الأطراف في العلمالإجمالي؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، فإنّ الإحرازالتعبّدي لايجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف، وهذا لافرق فيه بين أن يلزممن جريان الاستصحابين مخالفة عمليّة أم لا؛ لعدم إمكان الجعل ثبوتا.
وأمّا الاُصول الغير التنزيليّة فلا مانع من جريانها إلاّ المخالفة العمليّةللتكليف المعلوم في البين، فهي لاتجري إن لزم من جريانها ذلك، وتجري إن لميلزم(1)، إنتهى ملخّصا.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ كون الاستصحاب من الاُصول التنزيليّة بالمعنى الذيأفاده محلّ نظر، بل منع، فإنّ الكبرى المجعولة في أدلّته ليست إلاّ حرمة نقضاليقين بالشكّ، وظاهرها هو وجوب ترتيب آثار المتيقّن في ظرف الشكّ،وتطبيق عمله على عمل المتيقّن.
- (1) فوائد الاُصول 4: 14 ـ 17.