فمحلّ النزاع في الشبهة الغير المحصورة هو أن كثرة الأطراف وكونهغيرمحصورة هل يوجب الاحتياط أم لا؟
وممّا ذكرنا يظهر أنّه لاوجه للتمسّك في المقام بالاضطرار أو العسر أو عدمالابتلاء، كما صنعه الشيخ في الرسائل(1)، وغيره في غيرها.
منها: دعوى الإجماع، بل الضرورة من غير واحد من الأعلام قدسسرهم (1).
وفيه: أوّلاً: أنّه لا حجّيّة لادّعاء الإجماع أو الضرورة بما هما إذا كانمنقولين، بل لا بدّ أن يصل كلّ واحد إليهما بنفسه.
وثانياً: أنّه يحتمل استناد الإجماع إلى أدلّة اُخرى كالرواية مثلاً، فلابدّ منالبحث في مستنده.
ومنها: الأخبار الكثيرة الدالّة على عدم وجوب الاحتياط في مطلقالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو خصوص الغير المحصورة منها، كصحيحةعبداللّه بن سنان المتقدّمة عن أبي عبداللّه عليهالسلام ، قال: «كلّ شيء فيه حلال وحرامفهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه».
وقد عرفت ظهورها في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، وهي وإن كانتشاملة للمحصورة أيضا إلاّ أنّه لابدّ من تقييدها وحملها على غير المحصورة.
ودعوى أنّ ذلك حمل على الفرد النادر مدفوعة جدّا؛ لمنع كون الشبهةالغير المحصورة قليلة نادرة بالنسبة إلى المحصورة لو لم نقل بأنّها أكثر، كما يظهرلمن تدبّر في أحوال العرف.
ومنه يظهر الخلل فيما أفاده الشيخ الأنصاري في الرسائل في مقام الجوابعن الاستدلال بالأخبار الدالّة على حلّيّة كلّ مالم يعلم حرمته: من أنّ هذهالأخبار نصّ في الشبهة البدويّة، وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة،وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة الغير المحصورة، فإخراجها عن أحدهموإدخالها في الآخر ليس جمعا، بل ترجيحا بلا مرجّح(2).
وجه الخلل: ما عرفت من ظهور مثل الصحيحة في خصوص الشبهة
- (1) جامع المقاصد 2: 166، روض الجنان: 224، السطر 21، الفوائد الحائريّة: 247.
- (2) فرائد الاُصول 2: 432.
(صفحه 379)
المقرونة بالعلم الإجمالي؛ لأنّ الشيء الذي فيه حلال بالفعل وحرام بالفعل هوعبارة عن المختلط بهما مثل مجموع الإنائين أو المايعين، والشبهة البدويّةلاتكون كذلك.
وحينئذ فبعد إخراج الشبهة المحصورة ـ لحكم العقلاء باستلزام الإذن فيالارتكاب فيها للإذن في المعصية، وهو مضافا إلى قبحه غيرمعقول كمعرفت ـ تبقى الشبهة الغير المحصورة باقية تحتها.
هذا، مضافا إلى أنّه لو سلّمنا الشمول للشبهة البدويّة فكونها نصّا فيهوظاهرة في الشبهة الغير المحصورة محلّ نظر، بل منع، كما لا يخفى، فالاستدلالبها صحيح.
ويدلّ على ما ذكرنا أيضا ما رواه البرقي في محكي المحاسن عن أبيالجارود، قال: سألت أباجعفر عليهالسلام عن الجبن، فقلت: أخبرني من رأى أنه يجعلفيه الميتة، فقال: «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما فيالأرض؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل، واللّه، إنّيلأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن، واللّه، ما أظنّ كلّهم يسمّون،هذه البربر وهذه السودان»(1).
فإنّه لو أغمض النظر عن المناقشة في السند وكذا في المضمون من جهةصدورها تقيّة ـ لما عرفت سابقا من عدم حرمة الجبن الذي علم تفصيلبوضع الأنفحة من الميتة فيه عند علمائنا الإماميّة قدسسرهم ، خلافا للعامة، والروايةمقرّرة لهذا الحكم ـ تكون دلالتها على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الغيرالمحصورة واضحة.
وما ادّعاه الشيخ رحمهالله في الرسائل من أنّ المراد أنّ جعل الميتة في الجبن في
- (1) الوسائل 25: 119، الباب 61 من أبواب أطعمة المباحة، الحديث 5.
(صفحه380)
مكان واحد لايوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن، ولا كلام فيذلك، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلكالمكان، فلا دخل له بالمدّعى(1).
فيه نظر واضح؛ لأنّ الحكم بعدم وجوب الاجتناب عن الجبن في مكان معالعلم بعدم كونه من الأمكنة التي توضع فيه الميتة في الجبن ممّا لاينبغي أنيصدر من الإمام عليهالسلام ولا أن يقع موردا للشكّ، كما هو واضح.
بل الظاهر أنّ المراد أنّ مجرّد احتمال كون الجبن موضوعا فيه الميتة وأنّه منالجبن المنقولة من الأمكنة التي توضع فيها الميتة في الجبن لايوجب الاجتنابعن كلّ جبن، وهذا هو المطلوب في باب الشبهة الغير المحصورة، كما أنّقوله عليهالسلام : «ما أظنّ كلّهم يسمّون» ظاهر في أنّ العلم بعدم تسمية جماعة حينالذبح ـ كالبربر والسودان ـ لايوجب الاجتناب عن جميع اللحوم.
ودعوى أنّ المراد منه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّيّة، بل يكفي أخذهمن سوق المسليمن ـ كما في الرسائل(2) ـ غريبة جدّا ومخالفة لظاهر صدرالرواية؛ لعدم ارتباط استناد الحلّيّة إلى سوق المسلمين بالمقام، فمقتضى حفظالتناسب والارتباط أنّه لا موضوعيّة للسوق في الرواية، بل معناه حكايةالإمام عليهالسلام ما يعمل به بالمباشرة، فالذيل مؤيّد للصدر في عدم وجوبالاجتناب عن الشبهات الغير المحصورة.
ومنها: ما أفاده المحقّق الحائري رحمهالله في كتاب الدرر، وتوضيحه: أنّ تنجّزالتكليف عند العقلاء عبارة عن كونه بحيث يصحّ للمولى الاحتجاج على العبدوالمؤاخذة على مخالفته، وهذا المعنى غير متحقّق في الشبهة الغير المحصورة؛ لأنّ
- (1) فرائد الاُصول 2: 433.