(صفحه430)
وهو أصل الوجوب والإلزام ومعنى الجامعيّة الانتزاعيّة أنّها ليس بمجعولشرعي، فلا يجري الأصل الشرعيّ نفيا وإثباتا فيما لم يكن بمجعول شرعيّ.
كما أنّ دعوى عدم جريان الأصل في الأقلّ بالنسبة إلى وجوبه النفسى؛لعدم ترتّب أثر عليه بعد لزوم الإتيان به على أيّ تقدير كان واجبا نفسيّا أوغيريّا، فلا معارض للأصل الجاري في الأكثر.
مدفوعة؛ بأنّه يكفي في جريان الأصل ترتّب الأثر عليه ولو في بعضالموارد، وهنا كذلك، فإنّ جريان أصل البراءة عن الوجوب النفسي المجهولالمتعلّق بالأقلّ يترتّب عليه الأثر فيما لو سقط الجزء المشكوك عن الجزئيّةلتعذّر، فالأمر دائر بعد فرض تعذّر الجزء المشكوك بأنّ بقيّة الأجزاء يجبإتيانها بالوجوب النفسي أم لا؟ وجريان أصالة البراءة فيه مستلزم لعدموجوب الإتيان ببقيّة الأجزاء، فهذا الأثر في هذا المورد يكفي لإمكان جريانأصالة البراءة عن الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ مطلقا، فلذا يكون الأصلالجاري عن الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ معارضا للأصل الجاري عنالوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر.
وبالجملة، فلوكان مجرى البراءة هوالوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر لكانالأصل الجاري فيه معارضا بالأصل الجاري في الأقلّ.
وأمّا لو كان مجراها هي جزئيّة الجزء المشكوك فلا مانع من جريان حديثالرفع؛ لنفيه وتعيين المأمور به في الأقلّ على مختار صاحب الكفاية.
ثمّ استشكل على نفسه قائلاً لايقال: إنّ مجرى الحديث عبارة عن المجعولالشرعي، أو موضوعا للأثر الشرعي، ولا تكون الجزئيّة قابلة للوضع ولللرفع، بل كلّ واحد منهما يتعلّق بمنشأ انتزاعه، وهو الوجوب النفسي المتعلّقبالمركّب وما يترتّب عليها من الأثر من لزوم الإعادة، وهو من الأحكام
(صفحه 431)
العقليّة ولا يرتبط بالحكم الشرعي.
وأجاب عنه: أنّ الجزئيّة قابلة للوضع والرفع الشرعي باعتبار منشانتزاعها، فلا مانع من رفع الجزئيّة بالحديث المذكور(1).
ويرد عليه: أنّ رفع الجزئيّة لابدّ أن يكون برفع منشأ انتزاعها، وهو عبارةعن الوجوب المتعلّق بالأكثر، ورفعه معارض لرفع الوجوب المتعلّق بالأقلّ،فيقع التعارض حينئذ بين الأصل الجاري في منشأ انتزاعه وبين الأصلالجاري في الأقلّ كما في الصورة السابقة.
ومن هنا ينقدح الخلل فيما أفاده المحقّق العراقي بعد تسليم ثبوت التعارضبين الأصل الجاري في الأكثر في وجوبه النفسي والأصل الجاري في الأقلّ،من أنّه يكفي في جريان الأصل في جزئيّة المشكوك مجرّد كونها ممّا أمر رفعهووضعه بيد الشارع ولو بتوسّط منشأه، وهو التكليف، فإنّ للشارع رفعالجزئيّة عن المشكوك برفع اليد عن فعليّة التكليف المتعلّق بالأكثر(2).
وجه الخلل: ما عرفت من أنّ منشأ انتزاع الجزئيّة هو الوجوب النفسيالمتعلّق بالمركّب من الجزء المشكوك، والأصل الجاري فيه معارض بالأصلالجاري في المركّب من غيره، كما اعترف به.
أمّا لو كان مجرى البراءة هو الوجوب الغيري المتعلّق بالجزء المشكوكفالظاهر أيضا عدم جريان الأصل فيه للمعارضة؛ لأنّ الوجوب الغيريبالجزء المشكوك وإن كان وجوبا شرعيّا بناءً على القول بوجوب المقدّمة علىخلاف ما هو الحقّ والمحقّق في محلّه، إلاّ أنّ الملازمة بينه وبين وجوب ذيالمقدّمة ملازمة عقليّة، فالشكّ فيه وإن كان مسبّبا عن الشكّ في وجوب
- (1) كفاية الاُصول 2: 235.
- (2) نهاية الافكار 3: 390.
(صفحه432)
الأكثر، إلاّ أنّه لا يرتفع بالأصل الجاري في السبب بعد عدم كون المسبّبمن الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه، فكما أنّه يجري الأصل في السبب يجريفي المسبّب أيضا، وحينئذ فيقع التعارض بين الأصل الجاري فيهما والجاريفي الأقلّ.
نعم، لو قلنا بكون وجوب المقدّمة من الآثار الشرعيّة المترتّبة على وجوبذيها لكان الأصل الجاري في السبب معارضا بالأصل الجاري في الأقلّ، ويبقىالأصل الجاري في المسبّب سليما عن المعارض، ولكن هذا بمكان من البطلان؛لأن مسألة وجوب المقدّمة مسألة عقليّة، كما هو المسلّم بينهم.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه بناءً على عدم انحلال العلم الإجمالي لاتجريأصالة البراءة بالنسبة إلى الأكثر، لا في وجوبه النفسي المتعلّق به، ولا فيجزئيّة الجزء المشكوك، ولا في الوجوب الغيري المتعلّق به.
وهذا لا فرق فيه بين أن نقول باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقةالقطعيّة وبين أن نقول بكونه علّة تامّة له، فالتفكيك بين البراءة الشرعيّةوالعقليّة ممّا لا وجه له أصلاً.
ثمّ إنّ المحقّق العراقي المفصّل بين القول بالاقتضاء والعلّيّة أفاد في وجه عدمجريان الأصل النافي ـ بناءً على العلّيّة ولو في بعض أطرافه بلا معارض ـ أنّهبعد انتهاء الأمر إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط ولزوم تحصيل الجزمبالفراغ ولو جعليّا ـ أي جعل الشارع شيئا موجبا لفراغ الذّمّة وبراءة الذمّة لا مجال لجريان الاُصول النافية ولو في فرض كونها بلا معارض، إلاّ علىفرض اقتضاء جريانها لإثبات أن الواجب الفعلي هو الأقلّ ولو ظاهرا، كيببركة إثباته ذلك يكون الإتيان به فراغا جعليّا عمّا ثبت في العهدة، وهو أيضفي محلّ منع؛ لمنع اقتضاء مجرّد نفي وجوب الأكثر والخصوصيّة الزائدة لإثبات
(صفحه 433)
هذه الجهة إلاّ على القول بالمثبت الذي لا نقول به.
نعم، قد يتوهّم تكفّل مثل حديث الرفع لإثبات ذلك بأنّ الحديث ناظر إلىإطلاقات أدلّة الجزئيّة واقعا بتقييد مفاد فعليّتها بحال العلم بها، وأنّه برفعفعليّة التكليف عن المشكوك واقعا مع ضميمة ظهور بقية الأجزاء في الفعليّةيرتفع الإجمال من البين، ويتعيّن كون متعلّق التكليف الفعلي هو الأقلّ،وبالإتيان به يتحقّق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف.
وأجاب عن هذا التقريب بما ملخّصه: منع صلاحيّة حديث الرفع لأنيكون ناظرا إلى نفي فعليّة التكليف عن المشكوك واقعا؛ إذ مفاد الرفع فيه إنّمهو مجرّد الرفع الظاهري الثابت في المرتبة المتأخّرة عن الجهل بالواقع، ومثلهغير صالح لتقييد إطلاق الجزئيّة الواقعيّة المحفوظة حتّى بمرتبة فعليّتها فيالمرتبة السابقة عن تعلّق الجهل بها؛ لاستحالة ورود الرفع في ظرف الجهلبشيء على الشيء الملحوظ كونه في المرتبة السابقة على الجهل بنفسه، ولأنّرفع كلّ شيء عبارة عن نقيضه وبديله، فلا يمكن أن يكون الرفع في هذهالمرتبة نقيضا لما هو في المرتبة السابقة؛ لأنّ وحدة الرتبة بين النقيضين منالوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضادّ.
وحينئذ فلو كانت مقتضيات الفعليّة في المرتبة السابقة على الجهل متحقّقةلايكاد يصلح مثل هذا الحديث للمانعيّة عنها، ومعه يبقى العلم الإجمالي علىحاله.
وتوهّم: أنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي، إلاّ أنّالحكم الواقعي ولو بنتيجة الإطلاق يكون في مرتبة الحكم الظاهري، وبذلكأمكن تعلّق الرفع في تلك المرتبة بفعليّة الحكم الواقعي.
مدفوع، بأنّه مع الاعتراف بكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي
(صفحه434)
كيف يمكن توهّم كون الحكم الواقعي في عرض الحكم الظاهري وفي مرتبته؟نعم، الحكم الواقعي يجتمع مع الحكم الظاهري زمانا، ولكنّه لايقتضياجتماعهما رتبة(1). إنتهى.
ولا إشكال في عدم تماميّة هذا الجواب؛ لأنّه يرد عليه: أوّلاً: أنّ كون الجهلبشيء والشكّ فيه متأخّرا عن نفس ذلك الشيء ممنوع، وإلاّ لزم انقلابه علما،مع أنّه خلاف الوجدان، فإنّا نشكّ كثيرا مّا في شيء مع أنّه لا واقعيّة له،وهكذا العلم بشيء يكون مخالفا للواقع، فكما أنّ العلم لايتوقّف على الواقعيّة،وكذا الجهل والشكّ لايتوقّفان عليها.
وثانياً: أنّ معنى الإطلاق ليس هو لحاظ السريان والشمول حتّى يقتصرفيه على الحالات التي كانت في عرض الواقع من حيث الرتبة ـ أي الإيمانوالكفر في مثل: «اعتق رقبة» لا العلم والجهل ـ بل هو عبارة عن مجرّد عدمأخذ القيد في نفس الحكم أو متعلّقه مع كونه بصدد البيان، وحينئذ فلا مانعمن شمول إطلاق الواقع لمرتبة الجهل به، فلا استحالة في ورود الرفع في ظرفالجهل على الواقع الشامل لمرتبة الجهل أيضا.
ومن هنا يظهر: أنّ الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهريومحفوظا معه، كما تقدّم تحقيقه في مبحث اجتماع الحكم الظاهري مع الواقعي.
هذا تمام الكلام فيما لو كان الأقلّ والأكثر من قبيل الأجزاء.
- (1) نهاية الأفكار 3: 390 ـ 392.