(صفحه436)
متباينة للمأمور بها، كما لا يخفى»(1). إنتهى.
وتوضيح عدم جريان البراءة في المقام يتوقّف على بيان مقدّمتين:
الاُولى: أنّه لابدّ في الانحلال الموجب لجريان البراءة في المشكوك أن يرجعالعلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشكّ البدوي في الآخر،وبعبارة اُخرى: كان في البين قدر متيقّن تفصيلاً ووقع الشكّ في الزائد علىذلك المقدار؛ ضرورة أنّ بدون ذلك لا وجه للانحلال.
الثانية: أنّ الطبيعي في المتواطيات يتحصّص إلى حصص متعدّدة وآباءكذلك بعدد الأفراد، بحيث كان المتحقّق في ضمن كلّ فرد حصّة وأب خاصّمن الطبيعي المطلق غيرالحصّة والأب المتحقّق في ضمن فرد آخر، كالحيوانيّةالموجودة في ضمن الإنسان بالإضافة إلى الحيوانيّة الموجودة في ضمن نوعآخر كالبقر والغنم، وكالإنسانيّة المتحقّقة في ضمن زيد بالقياس إلى الإنسانيّةالمتحقّقة في ضمن بكر وخالد. فلا محالة في مفروض المقام لايكاد يكونالطبيعي المطلق بما هو جامع الحصص والآباء القابل للانطباق على حصّةاُخرى محفوظا في ضمن زيد؛ لأنّ ما هو محفوظ في ضمنه إنّما هي الحصّةالخاصّة من الطبيعي، ومع تغاير هذه الحصّة مع الحصّة الاُخرى المحفوظة فيضمن فرد آخر كيف يمكن دعوى اندراج البحث في الأقلّ والأكثر ولو بحسبالتحليل؟
بل المراد في مثل المقام ينتهي إلى العلم الإجمالي بتعلّق التكليف إمّبخصوص حصّة خاصّة، أو بجامع الحصص والطبيعي على الإطلاق، بما هوقابل للانطباق على حصّة اُخرى غيرها، فيرجع الأمر إلى الدوران بينالمتباينين، فيجب فيه الاحتياط بإطعام خصوص زيد مثلاً.
- (1) كفاية الاُصول 2: 238.
(صفحه 437)
ويرد على هذه المقدّمة: أنّ التحقيق في باب الكلّي الطبيعي هو كونهموجودا في الخارج بوصف الكثرة، فإنّ زيدا إنسان وعمرا أيضا إنسان،وزيد وعمرو إنسانان؛ لأنّ الكلّي الطبيعي ليس إلاّ نفس الماهيّة، وهي بذاتهلاتكون واحدة ولا كثيرة، وحيث إنّها لاتكون بنفسها كذلك فتجتمع معالواحد ومع الكثير؛ لأنّها لو كانت واحدة لم يكن يمكن أن تجتمع مع الكثير،ولو كانت كثيرة لايكاد يمكن أن تجتمع مع الواحد، فحيث لاتكون كثيرةبذاتها ولا واحدة بنفسها لاتأبى من الاجتماع معهما.
وبالجملة، كلّ فرد من أفراد الإنسان ـ مثلاً ـ هو نفس ماهيّته معخصوصيّة زائدة، فزيد حيوان ناطق، كما أنّ عمرا كذلك أيضا، ولا تكونالماهيّة المتحقّقة ضمن زيد مغايرة للماهيّة المتحقّقة ضمن عمرو أصلاً، فجميعأفراد الإنسان يشترك في هذه الجهة، ولا مباينة بينها من هذه الحيثيّة أصلاً،والطبيعي الجامع بينها يتّحد في الخارج مع كلّ واحد منها، ولا يكون واحدبالوحدة العدديّة كما زعمه الرجل الهمداني الذي صادفه الشيخ الرئيس فيبلدة همدان، حيث إنّه تخيّل أنّ الطبيعي الجامع موجود في الخارج بوصفالوحدة(1).
كما أنّ ما ذكر في المقدّمة الثانية من تحصّصه بحصص متباينة وكونها آباءمتعدّدة ممّا لايكاد يتصوّر وإن أذعن به بعض الأعلام.
مضافا إلى أنّه خلاف ما صرّح به الفلاسفة العظام، وتعبيرهم بأنّ الطبيعي معالأفراد كالآباء مع الأولا د إنّما يريدون به نفي ما زعمه الرجل الهمدانيمن كونه أبا واحدا خارجا وله أولا د متكثّرة، لا كونه ذا حصص متباينة.
إذا عرفت ذلك يظهر لك وجود القدر المتيقّن في مثل المقام، فإنّه لو دار
- (1) رسائل ابن سينا: 463، الحكمة المتعالية 1: 273 ـ 274، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 99.
(صفحه438)
الأمر بين وجوب إكرام مطلق الإنسان أو خصوص زيد، يكون إكرام طبيعةالإنسان التي هي عبارة عن الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الخصوصيّاتالمقارنة معه في الوجود الخارجي معلوما تفصيلاً، والشكّ إنّما هو فيالخصوصيّة الزائدة.
كما أنّه لو دار الأمر بين عتق مطلق الرقبة أو خصوص الرقبة المؤمنة يكونوجوب عتق مطلق الرقبة معلوما تفصيلاً، والشكّ إنّما هو في وجوبالخصوصيّة الزائدة وهي كونها مؤمنة؛ ضرورة أنّ الرقبة الكافرة تشترك معالرقبة المؤمنة في أصل المصداقيّة لمطلق الرقبة. نعم، بينهما افتراق من جهاتاُخرى لاترتبط بالطبيعي.
وحينئذ فلا فرق بين هذه الموارد وبين الأقلّ والأكثر أصلاً. نعم، بين تلكالموارد فرق من جهة وضوح ذلك وخفائه، فإنّ الدوران بين المطلقوالمشروط مع كون الشرط مغايرا في الوجود الخارجي مع المشروطـ كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ـ من أوضح تلك الموارد من جهة احتياجه فيعالم الجعل والثبوت إلى لحاظ آخر، كاحتياجه في عالم الإيصال والإثبات إلىمؤنة زائدة، بخلاف غيره من سائر الموارد.
وأمّا من جهة أصل وجود ما هو المناط في جريان البراءة من ثبوت القدرالمتيقّن فلا فرق بينها أصلاً.
وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله من وجوب الاحتياط فيما إذا كان الأقلّوالأكثر من قبيل الجنس والنوع؛ لأنّ الترديد بينهما وإن كان يرجع بالتحليلالعقلي إلى الأقلّ والأكثر، إلاّ أنّه خارجا بنظر العرف يكون من الترديد بينالمتباينين؛ لأنّ الإنسان بما له من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوانعرفا، فلو علم إجمالاً بوجوب إطعام الإنسان أو الحيوان فاللازم هو
(صفحه 439)
الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان؛ لأنّ ذلك جمع بين الأمرين، فإنّ إطعامالإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا(1).
ويرد عليه أوّلاً: أنّ البحث في البراءة العقليّة والمتّبع فيها نظر العقل، فليرتبط بنظر العرف، ولحاظه الإنسان مع الحيوان متباينا، وهذا الكلام يجريفي البراءة الشرعيّة المستفادة من الأدلّة اللفظيّة.
وثانياً: أنّ التنافي بين الحيوان والإنسان بنظر العرف لو سلّم لايوجبتعميم الحكم لمطلق ما إذا دار الأمر بين الجنس والنوع، فمن الممكن أنلايكون بعض الأنواع منافيا لجنسه بنظر العرف أيضا كالبقر والحيوان، والغنموالحيوان.
وثالثاً: لو سلّم التنافي فمقتضى القاعدة الحاكمة بوجوب الاحتياط الجمعبين الجنس والنوع بإطعام الحيوان والإنسان معا في المثال، لا الاقتصار علىإطعام الإنسان فقط.
وما أفاده من أنّ إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا رجوع عمّذكره أوّلاً من المباينة بينهما بنظر العرف، فإنّ استلزامه لذلك إنّما هو بملاحظةالتحليل العقلي لا النظر العرفي، كما لا يخفى.
ثمّ إنّك عرفت ممّا تقدّم أنّ تمام المناط لجريان البراءة هو وجود القدرالمتيقّن في البين، بلا فرق بين أن تكون الخصوصيّة المشكوكة من قبيلالخصوصيّات المنوّعة أو المفرّدة، أو من الخصوصيّات العرضيّة، بل قد عرفتأوضحيّة الجريان في القسم الثاني.
كما أنّه لا فرق فيه ـ أي في القسم الثاني ـ بين أن يكون القيد المشكوك فيهبحيث يمكن اتّصاف كلّ فرد من أفراد الطبيعي به ـ كالقيام والقعود والإيمان
- (1) فوائد الاُصول 4: 208.
(صفحه440)
والعدالة ـ وبين ما لم يكن كذلك كالهاشميّة ونحوها.
كما أنّه لا فرق أيضا بين أن يكون النوع المأخوذ متعلّقا للتكليف بنحو كانالجنس مأخوذا في ضمنه أيضا ـ كالحيوان الناطق ـ أو لم يكن كذلككالإنسان.
والسرّ في الجريان في الجميع اشتراكه فيما هو المناط.
ويستفاد من بعض الكلمات تفصيلات في المقام لاتحتاج إلى التعرّض،فالحقّ جريان البراءة العقليّة والشرعيّة في جميع موارد الدوران بين الأقلّوالأكثر بناءً على مبنى الانحلال.
وأمّا على القول بعدم الانحلال في باب الأجزاء فقال صاحب الكفاية بعدمجريان البراءة العقليّة وجريان البراءة الشرعيّة، وإذا دار الأمر بين الأقلّوالأكثر في باب الشرائط فقال بجريان البراءة الشرعيّة في باب المطلقوالمشروط بخلاف باب الجنس والنوع، ويعبّر بالعامّ والخاصّ، فيحكم بينهمبحكم المتباينين.
وقلنا: إنّ القول بعدم الانحلال مستلزم لعدم جريان حديث الرفع أصلاً،فإنّ جريانه في طرف واحد معارض لجريانه في الطرف الآخر، وجريانه فيكليهما يستلزم المخالفة القطعيّة العمليّة للمعلوم بالإجمال.
ولو سلّمنا جريانه فلا فرق بين الشرائط والنوع والجنس، كما أنّ الشكّ فيشرطيّة الوضوء ـ مثلاً ـ شكّ في أمر زائد على المأمور به، كذلك الشكّ فيخصوصيّة الإنسانيّة شكّ في أمر زائد على المأمور به وإن كانت الخصوصيّةمتّحدة مع الحيوان من حيث الوجود، ولكنّ الشكّ في أمر زائد ليس قابلللإنكار، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.