والمحقّق العراقي قائل بالتفصيل بين ما لو كان المسبّب عنوانا بسيطا ذمراتب متفاوتة ومتدرّج الحصول، وبين ما إذا كان دفعي الحصول، بجريانالبراءة في الأوّل بخلاف الثاني(1)، ولكنّه خارج عن محلّ البحث، فإنّه لو كانالعنوان البسيط ذا مراتب متدرّج الوجود وتعلّق الأمر المشكوك بمرتبة ضعيفةأو متوسّطة أو كاملة فهو خارج عن محلّ البحث، فإنّ البحث فيما كان المأموربه معلوما ومحصّل المأمور به وسببه مشكوكا وإن كان المأمور به ومتعلّقالأمر معلوما، كما إذا علمنا بتعلّق الأمر بمرتبة متوسطة منه ـ مثلاً ـ فلا فرقبينه وبين دفعي الحصول؛ إذ المرتبة الضعيفة دفعيّة الحصول، وهكذا المرتبةالمتوسطة والكاملة.
إذا ظهر لك ذلك فاعلم: أنّ الأقوى وجوب الاحتياط مطلقا؛ لأنّه بعدتنجّز التكليف وعدم كون المكلّف معذورا في مخالفته من جهة العلم بهوبمتعلّقه ـ أي قطعيّة تعلّق الأمر ومعلوميّة المتعلّق ـ يحكم العقل حكما بتّيبلزوم العلم بالفراغ عن عهدته بالإتيان بكلّ ما يحتمل دخله في سببيّة السببوترتّب المسبّب عليه جزءً أو شرطا، وليس الاقتصار على الأقلّ ـ الذي
لايوجب الإتيان به إلاّ مجرّد احتمال تحقّق الامتثال والإتيان بالمأمور به ـ إلكالاقتصار على احتمال الإتيان بالمأمور به فيما لو احتمل أنّه لم يأت بشيء منأجزائه وشرائطه أصلاً.
ومن المعلوم أنّ مقتضى حكم العقل فيه لزوم إحراز الامتثال، ألاترى أنّهلايكفي لمن احتمل أنّه لم يصلّ أصلاً مجرّد احتمال أنّه صلّى. نعم، بعد خروجالوقت دلّ الدليل النقلي على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال في خصوص الصلاة.
ودعوى: أنّه بعد الإتيان بما علم مدخليّته في السبب لايعلم ببقاء الأمرحينئذ حتّى يجب عليه الإتيان بالقيد المشكوك؛ ضرورة أنّه يحتمل أن يكونالمأتي به تمام السبب.
مدفوعة؛ بأنّ هذا الاحتمال متحقّق في جميع موارد قاعدة الاشتغال كما هوواضح، والمناط في جريانها هو العلم بتعلّق الأمر وكون المتعلّق معلوما أيضوشكّ في فراغ ذمّته منه.
وبالجملة، بعدما قامت الحجّة من المولى على ثبوته وعلى تعيين المكلّف بهلايكون مفرّ من لزوم العلم بتحقّقه وحصول الامتثال، وهو يقتضي وجوبالاحتياط، بلافرق بين أن تكون الأسباب عاديّة أو عقليّة أو شرعيّة، وكذبين أن نقول باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة أو بكونه علّةتامّة، ولا بين أن نقول بإمكان جعل السببيّة وكذا الجزئيّة والشرطيّة، أو لنقول بذلك.
ولا فرق أيضا فيما ذكرنا بين أن نقول بأنّ عدم المأمور به المنهي عنهحسب اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن النقيض متكثّر حسب تكثّر أجزاءمحقّقة، لأنّه ينعدم بانعدام كلّ واحد منها، أو نقول بأنّه ليس للمأمور به إلعدم واحد؛ إذ كما أنّه لايكون له إلاّ وجود واحد كذلك لايكون له إلاّ عدم
(صفحه 445)
واحد، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في بعض المقدّمات التي مهّدناها لجريانالبراءة في الأقلّ والأكثر في الأجزاء.
وأمّا على القول الثاني فواضح؛ لأنّ المنهي عنه إنّما هو عدم واحد، ولا يعلمبتركه وحصول الامتثال إلاّ بالإتيان بكلّ مايحتمل دخله في المحقّق ـ بالكسر شطرا أو شرطا؛ إذ مع الاقتصار على المقدار المعلوم لايعلم بتحقّق المأمور بهحتّى يعلم بامتثال النهي بترك المنهي عنه.
أمّا على القول الأوّل فقد يقال بأنّه لامانع حينئذ من جريان البراءة؛ لأنّالأمر ينتهي في ظرف حرمة الترك إلى الأقلّ والأكثر، حيث إنّ ترك المأمور بهالناشئ من قبل ترك الأقلّ ـ أي عدم تحقّق الضربة الاُولى ـ ممّا يعلم تفصيلحرمته واستحقاق العقوبة عليه؛ للعلم بإفضائه إلى ترك المأمور به، وأمّا التركالناشئ من قبل الجزء أو الشرط المشكوك ـ أي عدم تحقّق الضربة الثانية فلا يعلم حرمته؛ لعدم العلم بأدائه إلى ترك المأمور به، فيشكّ في تعلّق النهيعنه، فتجري فيه أدلّة البراءة العقليّة والنقليّة.
وقلنا: إنّ هذه المناقشة مبتنية على مقدّمتين: الاُولى: كون الأمر بالشيءمقتضيا للنهي عن النقيض والضدّ العامّ، والثانية: القول بتعدّد الأعدام؛ لعدمالمأمور به المتعلّق للنهي، فإنّ بعضها متعلّق للنهي الناشيء عن الأمر المتعلّقبالمأمور به قطعا، وبعضها مشكوك من هذه الجهة، وكلاهما ليس قابلللالتزام.
ولكن على فرض تماميّة المقدّمتين لا مجال لجريان البراءة؛ لأنّ هذهالنواهي المتعلّقة بأعدام المأمور به حيث إنّها لاتكون إلاّ ناشئة من الأمرالمتعلّق به؛ ضرورة أنّها لاتكون نواهي مستقلّة؛ لأنّ مباديها إنّما هي المباديالموجبة للأمر، فلا مجال تكون في السعة والضيق تابعة للأمر، فلا مجال لإجراء