(صفحه460)
ومن المعلوم أنّ التكليف بعنوان الناسي غير قابل لأنّ يصير داعيا لانقداحالإرادة؛ لأنّ الناسي لايلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد، فيلزم أن يكونالتكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق، وهو كماترى ممّلايمكن الالتزام به، وهذا بخلاف الأمر بالقضاء والأداء، فإنّ الأمر قابل لأنيصير داعيا ومحرّكا للإرادة بعنوان الأداء أو القضاء؛ لإمكان الالتفات إلىكونه أداءً أو قضاء.
نعم، قد يتّفق الخطأ في التطبيق، وأين هذا من التكليف بما يكون امتثالهدائما من باب الخطأ في التطبيق كما في ما نحن فيه، فقياس المقام بالأمر بالأداءأو القضاء ليس على ما ينبغي(1). إنتهى.
هذا ولكن يرد على هذا الجواب: أنّه بعد تسليم كون الباعث والمحرّكللناسي دائما إنّما هو الأمر الواقعي المتعلّق بالناسي لا مجال لما ذكره؛ لعدم المانعمن كون الخطأ في التطبيق أمرا دائميّا؛ إذ الملاك هو الانبعاث من البعثالمتوجّه إليه، والمفروض تحقّقه، لعدم كونه منبعثا إلاّ عن الأمر الواقعي المتعلّقبخصوص الناسي، فمع تسليم باعثيّة ذلك الأمر لا موقع لهذا الإشكال.
ويؤيّده أنّ الناسي يرى نفسه متأثّرة عن الأمر الأوّل في مقام الامتثال؛لعدم التفاته إلى غفلته، فيكون وجود أمر الثاني وعدمه على حدّ سواء بعدوصول المولى إلى غرضه من طريق الأمر الأوّل، فلا احتياج إلى الأمر الثاني.
وذكر جوابا جيّدا عن الشيخ صاحب الكفاية رحمهالله ولكن لانحتاج إلى ذكرههنا بعد بيان ما هو الحقّ.
ردّ تفصيل المحقّقالنائيني بيناستيعابالنسيان لجميع الوقت وعدمه
- (1) فوائد الاُصول 4: 211 ـ 212.
(صفحه 461)
ثمّ إنّه قد مرّت الإشارة إلى أنّ محلّ الكلام في جريان البراءة العقليّة فيالمقام هو ما إذا لم يكن لشيء من دليلي المركّب والأجزاء إطلاق، وإلاّ فلا مجاللها أصلاً، كما هو واضح، ومع عدم ثبوت الإطلاق لا فرق في جريانها بينكون النسيان مستوعبا لجميع الوقت أو لم يكن كذلك، خلافا لما صرّح بهالمحقّق النائيني رحمهالله من التفصيل بين الصورتين حيث إنّه بعد اختيار جريانالبراءة قال ما ملخّصه:
إنّ أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة هو رفع الجزئيّة في حال النسيان فقط،ولا تقتضي رفعها في تمام الوقت إلاّ مع استيعاب النسيان لتمام الوقت، فلوتذكّر في أثنائه بمقدار يمكنه إيجاد الطبيعة بتمام مالها من الأجزاء فأصالة البراءةعن الجزء المنسي في حال النسيان لاتقتضي عدم وجوب الفرد التامّ في ظرفالتذكّر، بل مقتضى إطلاق الأدلّة وجوبه؛ لأنّ المأمور به هو صرف وجودالطبيعة التامّة الأجزاء والشرائط في مجموع الوقت، ويكفي في وجوب ذلكالتمكّن من إيجادها كذلك ولو في جزء من الوقت، ولا يعتبر التمكّن من ذلك فيجميع الآنات.
والحاصل: أنّ رفع الجزئيّة في حال النسيان لايلازم رفعها في ظرفالتذكّر؛ لأنّ الشكّ في الأوّل يرجع إلى ثبوت الجزئيّة في حال النسيان، وفيالثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر، والأوّل مجرى البراءة،والثاني مجرى الاشتغال.
هذا إذا لم يكن ذاكرا في أوّل الوقت، ثمّ عرض له النسيان في الأثناء، وإلفيجري استصحاب التكليف الثابت عليه في أوّل الوقت، للشكّ في سقوطهبسبب النسيان الطارئ الزائل في الوقت(1). إنتهى.
- (1) فوائد الاُصول 4: 220 ـ 221.
(صفحه462)
وفيه: أنّك عرفت أنّ محلّ الكلام هو ما إذا لم يكن للدليل المثبت للجزئيّةإطلاق، وإلاّ فلا مجال لأصالة البراءة العقليّة مطلقا، ومع عدم الإطلاق، كما هوالمفروض نقول: لا موقع لهذا التفصيل؛ لأنّ الناسي في حال النسيان لا إشكالفي عدم كونه مكلّفا بالمركّب التامّ المشتمل على الجزء المنسي؛ لعدم كونه قادرعليه، بل إمّا أن نقول بعدم كونه مأمورا بالمركّب الناقص أيضا ـ كما حكيعن المحقّق الميرزا الشيرازي رحمهالله ـ وإمّا أن نقول بكونه مكلّفا بما عدا الجزءالمنسي، كما حكي عن تقريرات بعض الأجلّة لبحث الشيخ، وإمّا أن نقول بمأفاده المحقّق الخراساني رحمهالله الذي ارتضاه المحقّق النائيني رحمهالله (1) من كون المكلّف بهأوّلاً في خصوص الذاكر والناسي هو خصوص ما عدا الجزء المنسي، ويختصّالذاكر بخطاب يخصّه بالنسبة إلى الجزء المنسي، وعلى التقادير الثلاثة تجريالبراءة مطلقا.
أمّا على التقدير الأوّل فلأ نّه بعد الإتيان بالفرد الناقص في حال النسيانيشكّ في أصل ثبوت التكليف؛ لإحتمال اختصاص اقتضاء الجزء المنسي بحالالعمد، وكذا على التقدير الثاني، فإنّه بعد الإتيان بما هو المأمور به بالنسبة إليهيشكّ في توجّه الأمر بالمركّب التامّ، وهو مجرى البراءة، كما أنّه بناءً على التقديرالثالث يشكّ في كونه مشمولاً للخطاب الآخر المختصّ بالذاكرين، والمرجع فيهليس إلاّ البراءة.
وبالجملة، لا مجال للإشكال في سقوط الجزء عن الجزئيّة في حال النسيان،وبعده يرجع الشكّ إلى الشكّ في توجّه الأمر المتعلّق بالفرد التامّ.
نعم، قد عرفت أنّه لو لم يأت بالمأمور به أصلاً في حال النسيان لايبقى شكّفي عدم سقوط الأمر، وهذا واضح، وأمّا مع الإتيان بالفرد الناقص ـ كما هو
- (1) فوائد الاُصول 4: 213 ـ 214.
(صفحه 463)
المفروض ـ لا يعلم ببقاء الأمر وتوجّهه إليه.
وأمّا ما ذكره من الاستصحاب فيما إذا كان ذاكرا في أول الوقت ثمّ عرضله النسيان، ففيه أنّه في حال النسيان نقطع بارتفاعه، ونشكّ بعد الإتيان بالفردالناقص وزوال النسيان في عوده، والأصل يقتضي البراءة كما هو واضح.
تتمّة: في ثبوت الإطلاق لدليل الجزء والمركّب
قد عرفت أنّ مركز البحث في جريان البراءة العقليّة هو ما إذا لم يكنللدليل المثبت للجزئيّة إطلاق يقتضي الشمول لحال النسيان أيضا،وكذا ما إذلم يكن لدليل المركّب إطلاق يؤخذ به ويحكم بعدم كون المنسي جزءا في حالالنسيان؛ اقتصارا في تقييد إطلاقه بخصوص حال الذِّكر. والآن نتكلّم في قيامالدليل وثبوت الإطلاق لشيء من الدليلين وعدمه وإن كان خارجا عنالبحث الاُصولي ونتيجة إطلاق دليل جزئيّة الجزء هي ركنيّته، ونتيجة إطلاقدليل المركّب هي عدم ركنيّته، فعلى الأوّل تكون الصلاة الفاقدة للجزء المنسيباطلة، وعلى الثاني صحيحة.
وقال المحقّق العراقي في هذا المقام ما ملخّصه: إنّ دعوى ثبوت الإطلاقلدليل المركّب مثل قوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» ساقطة عن الاعتبار؛لوضوح أنّ مثل هذه الخطابات إنّما كانت مسوقة لبيان مجرّد التشريع بنحوالإجمال.
وأمّا الدليل المثبت للجزئيّة فلا يبعد هذه الدعوى فيه؛ لقوّة ظهوره فيالإطلاق من غير فرق بين أن يكون بلسان الوضع كقوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحةالكتاب»(1)، وبين أن يكون بلسان الأمر، كقوله: «اركع في الصلاة»، مثلاً.
- (1) مستدرك الوسائل 4: 158، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
(صفحه464)
نعم، لو كان دليل اعتبار الجزء هو الإجماع يمكن تخصيص الجزئيّةالمستفادة منه بحال الذكر؛ لأنّه القدر المتيقّن، بخلاف ما لو كان الدليل غيره،فإنّ إطلاقه مثبت لعموم الجزئيّة لحال النسيان.
لايقال: إنّ ذلك يتمّ إذا كان الدليل بلسان الوضع، وأمّا إذا كان بلسان الأمرفلا؛ لأنّ الجزئيّة حينئذ تتبع الحكم التكليفي، فإذا كان مختصّا بحكم العقلبحال الذكر فالجزئيّة أيضا تختصّ بحال الذكر.
فإنّه يقال: إنّه لو تمّ ذلك فإنّما هو على فرض ظهور تلك الأوامر في المولويّةالنفسيّة أو الغيريّة، وإلاّ فعلى ما هو التحقيق من كونها إرشادا إلى جزئيّةمتعلّقاتها فلا يستقيم ذلك؛ إذ لايكون حينئذ محذور عقلي.
مع أنّه على فرض المولويّة ولو بدعوى كونها بحسب اللبّ عبارة عنقطعات ذلك الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب غير أنّها صارت مستقلّة في مقامالبيان، نقول: إنّ المنع المزبور إنّما يتّجه لو كان حكم العقل بقبح تكليف الناسيمن الأحكام الضروريّة المرتكزة في الأذهان بحيث يكون كالقرينة المختصّةبالكلام مانعا عن انعقاد الظهور، مع أنّه ممنوع؛ لأنّه من العقليّات التي لاينتقلالذهن إليها إلاّ بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ التي أوجبت حكم العقل،فيصير حينئذ من القرائن المنفصلة المانعة عن حجّيّة الظهور، لا عن أصلالظهور.
وعليه يمكن إن يقال: إنّ غاية ما يقتضيه الحكم العقلي إنّما هو المنع عنحجّيّة ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفي، وأمّبالنسبة إلى الحكم الوضعي وهو الجزئيّة وإطلاقها لحال النسيان، فحيث لقرينة على الخلاف من هذه الجهة يؤخذ بظهورها في ذلك.