(صفحه 497)
لإطلاق دليل الجزء والشرط فحكمه حكم ما إذا كان له إطلاق دون دليلالمركّب.
ولا يخفى أنّه لايكون التقدّم من أحد الجانبين كلّيّا؛ لما عرفت وستعرف منأنّ الحكومة بلسان الدليل، ولسان دليل المركّب قد يكون متعرّضا لحال دليلالجزء أو الشرط، كما إذا كان دليل المركّب مثل قوله: «لاتترك الصلاة بحال»،ودليل اعتبار الجزء أو الشرط مثل قوله: «اركع في الصلاة» أو «اسجد فيها».
وقد يكون دليل اعتبار الجزء متعرّضا لحال دليل المركّب وحاكما عليه،كما إذا كان دليل الجزء مثل قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1) أو «لا صلاةإلاّ بطهور»(2)، ودليل المركّب مثل قوله: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» فإنّه حينئذ لإشكال في تقدّم دليل الجزء في هذه الصورة؛ لأنّه إنّما يدلّ بظاهره على عدمتحقّق عنوان الصلاة مع كونها فاقدة لفاتحة الكتاب، ودليل المركّب إنّما يدلّعلى وجوب إقامة الصلاة، كما أنّه في الصورة الاُولى يكون الترجيح مع دليلالمركّب؛ لأنّ مقتضاه أنّه لايجوز تركه بحال، ومقتضى دليل الجزء مجرّد الأمربالركوع والسجود في الصلاة مثلاً.
وبالجملة، لابدّ من ملاحظة الدليلين، فقد يكون التقدّم لإطلاق دليلالمركّب، وقد يكون لإطلاق دليل الجزء.
وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله على ما في التقريرات من أنّ إطلاق دليلالقيد حاكم على إطلاق دليل المقيّد كحكومة إطلاق القرينة على ذيها(3).
فيرد عليه: أوّلاً: أنّ ترجيح القرينة على ذيها ليس لحكومتها عليه، وإلفيمكن ادّعاء العكس، وأنّ ذاالقرينة حاكم عليها، بل ترجيحها عليه إنّما هو
- (1) مستدرك الوسائل 4: 158، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
- (2) وسائل الشيعة 1: 365، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
- (3) فوائد الاُصول 4: 250.
(صفحه498)
من باب ترجيح الأظهر على الظاهر.
وثانياً: ما عرفت من منع حكومة إطلاق دليل القيد على إطلاق دليل المقيّدمطلقا، بل قد عرفت أنّه قد يكون الأمر بالعكس.
وثالثاً: وضوح الفرق بين المقام وبين باب القرينة وذي القرينة، فإنّ هنيكون في البين دليلان مستقلاّن، بخلاف باب القرينة وذي القرينة.
وقد نسب إلى الوحيد البهبهاني رحمهالله التفصيل فيما لو كان لدليل القيد إطلاقبين ما إذا كانت القيود مستفادة من مثل قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»و«لا صلاة إلاّ بطهور»، وبين القيود المستفادة من مثل قوله: «اسجد في الصلاة»أو «اركع فيها» أو «لاتلبس الحرير فيها»، وأمثال ذلك من الأوامر والنواهيالغيريّة، فيحكم بسقوط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد في الأوّل دون الثاني(1).
ومرجع هذا الكلام كما اعتقده اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله إلى ما ذكرنا من أنّلسان دليل الجزء أو الشرط قد يكون بنحو الحكومة على دليل المركّب كما فيالصورة الاُولى، وقد يكون الأمر بالعكس كما في الصورة الثانية، ولكنّ التعبيربالحكومة لميكن في عصره متداولاً.
ولكنّ المحقّق النائيني رحمهالله قال في مقام توجيه الكلام المذكور بما ملخّصه: إنّالأمر الغيري المتعلّق بالجزء أو الشرط مقصورة على صورة التمكّن؛ لاشتراطكلّ خطاب بالقدرة على متعلّقه، فلابدّ من سقوط الأمر بالقيد عند تعذّره،ويبقى الأمر بالباقي، وهذا بخلاف ما لو كان القيد مستفادا من مثل قوله:«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، فإنّه لميتعلّق أمر بالفاتحة حتّى يشترط فيهالقدرة عليها، بل إنّما اُفيد ذلك بلسان الوضع لا التكليف، ولازم ذلك سقوطالأمر بالصلاة عند تعذّر الفاتحة؛ لعدم التمكنّ من إيجاد الصلاة الصحيحة عند
- (1) المصدر السابق 4: 251.
(صفحه 499)
عدم تمكّنه من الفاتحة.
وأجاب عنه بأنّ القدرة إنّما تعتبر في متعلّقات التكاليف النفسيّة؛ لكونهطلبا مولويّا وبعثا فعليّا نحو المتعلّق، والعقل يستقلّ بقبح تكليف العاجز،وهذا بخلاف الخطابات الغيريّة، فإنّه يمكن أن يقال: إنّ مفادها ليس إلالإرشاد وبيان دخل متعلّقاتها في متعلّقات الخطابات النفسيّة، وفي الحقيقةالخطابات الغيريّة في باب التكاليف وفي باب الوضع تكون بمنزلة الأخبار مندون أن يكون فيها بعث وتحريك حتّى تقتضي القدرة على متعلّقه.
ثمّ إنّه لو سلّم الفرق بين الخطابات الغيريّة في باب متعلّقات التكاليف وفيباب الوضعيّات، وأنّها في التكاليف تتضمّن البعث والتحريك، فلا إشكال فيأنّه ليس في آحاد الخطابات الغيريّة ملاك البعث المولوي، وإلاّ لخرجت عنكونها غيريّة، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع، فالقدرة إنّما تعتبر أيضفي المجموع لا في الآحاد، وتعذّر البعض يوجب سلب القدرة عن المجموع،ولازم ذلك سقوط الأمر منه لا من خصوص ذلك البعض(1). إنتهى.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ ما أفاده من أنّ الخطابات الغيريّة في باب التكاليفوفي باب الوضع تكون بمنزلة الأخبار من دون أن يكون فيها بعث وتحريكفممنوع جدّا؛ ضرورة أنّ الأوامر مطلقا ـ نفسيّة كانت أو غيرية، مولويّة كانتأو إرشاديّة ـ إنّما تكون للبعث والتحريك كما مرّت الإشارة إلى ذلك سابقا.
غاية الأمر أنّ الاختلاف بينهما إنّما هو باختلاف الأغراض والدواعي، وأمّمن جهة البعث والتحريك فلا فرق بينهما أصلاً، وحينئذ فيشترط فيه عقلالقدرة على متعلّقه، وحيث إنّه لا قدرة في البين ـ كما هو المفروض ـ فاللازمسقوطه وبقاء الأمر بالباقي، بخلاف ما لو كان بمثل قوله: «لا صلاة إلاّ بفاتحة
- (1) فوائد الاُصول 4: 251 ـ 253.
(صفحه500)
الكتاب» ممّا لايكون فيه بعث ولا تحريك أصلاً، فإنّ ظاهره اشتراط الصلاةبالفاتحة وعدم تحقّقها بدونها، فمع عدم القدرة عليها يسقط الأمر المتعلّق بها،وحينئذ فيتمّ ما أفاده الوحيد رحمهالله .
وثانياً: منع ما ذكره من اعتبار القدرة في المجموع لقيام ملاك البعث المولويبه، لأنّ البعث مطلقا ـ مولويّا كان أو غيريّا ـ مشروط بالقدرة، وكون المتعلّقفي البعث الغيري دخيلاً في المطلوب الذاتي ـ جزءً أو شرطا لا نفس المطلوبالذاتي ـ لا يوجب نفي اعتبار القدرة عليه؛ لأنّ اعتبارها إنّما هو لأجل نفسالبعث والتحريك، كما هو واضح.
فالإنصاف بطلان هذا الجواب، وكذا فساد أصل التوجيه، والظاهر أنّمرجع كلام الوحيد رحمهالله إلى ما ذكرناه، فتدبّر.
فمحلّ النزاع أنّ بعد إثبات جزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته أو قاطعيّتهبنحو الإجمال نشكّ في أنّها مطلقة أو مختصّة بصورة التمكّن، والمفروض أنّه لإطلاق لكلا الدليلين ـ أي دليل الجزء ودليل أصل المأمور به ـ أو يتحقّقالإطلاق لكليهما بدون أن يكون أحدهما حاكما على الآخر، إذا عرفت ذلكفاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين:
أحدهما: فيما تقتضيه القواعد الأوّليّة.
وثانيهما: فيما تقتضيه القواعد الثانويّة.
مقتضى القواعد الأوّليّة في المقام في جريان البراءة العقليّة
أمّا الكلام في المقام الأوّل فمحصّله: أنّ الظاهر جريان البراءة العقليّة؛ لأنّمرجع الشكّ في اعتبار الشيء في المأمور به ـ شطرا أو شرطا مطلقا أواختصاصه بصورة التمكّن منه ـ إلى الشكّ في ثبوته مع العجز عنه، وهو مورد
(صفحه 501)
لجريان البراءة كما لا يخفى.
وهذا لا فرق فيه بين ما لو كان العجز من أوّل البلوغ الذي هو أوّل زمانثبوت التكليف، كالأخرس الذي لايقدر على القراءة، وبين ما لو كان طارئفي واقعة واحدة، كمن عرض له العجز في أثناء الوقت بعد أن كان متمكّنا فيأوّل الوقت، وبين ما لو كان طارئا في واقعتين، كمن كان قادرا في الأمسوصار عاجزا في اليوم من أوّل الوقت إلى آخره.
ووجه عدم الفرق: أنّ مرجع الشكّ في الجميع إلى الشكّ في أصل ثبوتالتكليف، والقاعدة فيه تقتضي البراءة.
أمّا الصورة الاُولى فرجوع الشكّ فيها إلى الشكّ في أصل التكليف واضح،وكذا الصورة الثالثة؛ لأنّ ثبوت التكليف في الواقعة الاُولى لا دلالة على ثبوتهفي الواقعة الثانية أيضا، فالتكليف فيها مشكوك.
وأمّا الصورة الثانية فلأنّ المكلّف وإن كان عالما في أوّل الوقت بتوجّهالتكليف إليه، إلاّ أنّه حيث كان قادرا على المأمور به بجميع أجزائه وشرائطهيكون المكلّف به في حقّه هو المأمور به مع جميع الأجزاء والشرائط، فتعلّقالتكليف بالمركّب التامّ كان معلوما مع القدرة عليه.
وأمّا مع العجز عن بعض الأجزاء أو الشرائط فلم يكن أصل ثبوتالتكليف بمعلوم، فما علم ثبوته قد سقط بسبب العجر، وما يحتمل ثبوته فعلكان من أوّل الأمر مشكوكا، فلا مانع من جريان البراءة فيه.
ولكن قد يتوهّم أنّ المقام نظير الشكّ في القدرة، والقاعدة فيه تقتضيالاحتياط بحكم العقل، ولا يخفى أن التنظير غير صحيح؛ لأنّ في مسألة الشكّفي القدرة يكون أصل ثبوت التكليف معلوما بلاريب، غاية الأمر أنّه يشكّ فيسقوطه لأجل احتمال العجز عن إتيان متعلّقه.