(صفحه58)
حتّى يلزم المحذور المذكور؛ كأنّه قال المولى: أيّها العبد، جعلت قطعك الذي لهكاشفيّة تامّة موضوعاً للحرمة، كما يتحقّق هذا المعنى في قوله: الظنّ الحاصلمن خبر العادل حجّة ـ أي الظنّ الحاصل للمكلّف منه ـ وله طريقيّة إلى الواقعيكون تمام الموضوع للحكم بالحجّية.
وهكذا في مثل القطع حجّة، فإنّ العقل يحكم بأنّ القطع الطريقي الحاصلللمكلّف يكون تمام الموضوع للحكم بالحجّية، يعني إذا صادف الواقع يوجبالمنجّزية، وإذا خالف الواقع يوجب المعذّرية.
والحقّ أنّ ما ذكره الاُستاذ لا يكون جواباً عن الإشكال؛ إذ الإشكال فياجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي في صورة أخذ القطع تمام الموضوع علىنحو الطريقيّة لا في متعلّق اللحاظ، وعلى فرض كون قطع المكلّف موضوعللحكم أيضاً يعود الإشكال؛ إذ لابدّ في كلّ موضوع من تصوّره ولحاظه، فهللاحظه المولى استقلاليّاً كما هو مقتضى كونه تمام الموضوع، أم لاحظه آليّاً كمهو مقتضى طريقيّته، والجواب المذكور ليس بجواب عنه.
وجواب الاحتمال الثاني: أنّ أخذ القطع بعنوان تمام الموضوع سلّمنا أنّمعناه عدم مدخليّة الواقع؛ لعدم الفرق بين صورتي الإصابة والخطأ، وأمّا أخذالقطع على نحو الطريقيّة فليس معناه دخالة الواقع، فإنّ طريقيّة القطعلايستلزم الإيصال إلى الواقع، بل يوصل إليه أكثر الأوقات، ولا يوصل إليهأحياناً، مع أنّ عنوان طريقيّته محفوظ في كلتا الصورتين، فلا مدخليّة للواقعأصلاً، فلا يكون كلامه قدسسره قابلاً للالتزام على كلا الاحتمالين، فالأقسام الستّةالمذكورة للقطع الموضوعي غير قابلة للمناقشة.
واعلم أنّ القطع الموضوعي تارةً يقسّم بلحاظ نفسه كما عرفت أنّه بهذاللحاظ ينقسم إلى ستّة أقسام، واُخرى يقسّم بلحاظ متعلّقه، وبهذا الاعتبار
(صفحه 59)
ينقسم إلى خمسة أقسام:
الأوّل: أن يكون متعلّق القطع أمراً خارجيّاً، كما لو فرض القطع بخمريّةالمائع موضوعاً للحرمة.
الثاني: أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعاً لخلاف ذلك الحكم، كما إذا قيل:«إن قطعت بوجوب صلاة الجمعة فيجب عليك التصدّق بكذا».
الثالث: أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعاً لضدّ ذلك الحكم، كما إذا قيل:«إن قطعت بوجوب صلاة الجمعة فتحرم عليك».
الرابع: أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم، كما إذا قيل: «إنقطعت بوجوب صلاة الجمعة فتجب عليك»، أي بوجوب آخر.
الخامس: أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعاً لنفس ذلك الحكم، كما إذا قيل:«إن قطعت بوجوب صلاة الجمعة فتجب عليك»، أي بنفس ذلك الوجوبالمقطوع به.
ثمّ إنّه لا إشكال في إمكان أخذ القطع المتعلّق بالموضوع الخارجي فيموضوع الحكم الشرعي، كما لا إشكال في إمكان أخذ القطع المتعلّق بالحكمالشرعي في موضوع حكم شرعي آخر مخالف له، وإنّما الإشكال في إمكانبقية الأقسام وعدمه.
أمّا القسم الثالث: فقد ذكر في وجه استحالته اُمور متعدّدة:
الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراساني قدسسره (1) من استلزامه لاجتماع الضدّين، وهومحال.
توضيح ذلك: أنّ اجتماع الضدّين يكون في صورة إصابة القطع الواقع، وأمّفي صورة الخطأ يكون اجتماع الضدّين بحسب نظر القاطع لا بحسب الواقع.
(صفحه60)
وفيه: ما عرفته في مسألة اجتماع الأمر والنهي من أنّ التضادّ يتحقّق فيالاُمور التكوينيّة والواقعيّة، مثل: اجتماع السواد والبياض في جسم واحد، وأمّالأحكام الشرعيّة، فلا يتحقّق فيها مقولة التضادّ ولا غيرها من المقولاتلكونها من الاُمور الاعتباريّة، وقد عرفت عدم إمكان اجتماع الضدّين ولو منناحية الشخصين، مع أنّه يمكن أن تكون طبيعة واحدة حراماً لمكلّف وواجبلمكلّف آخر، أو تكون مأموراً بها من المولى ومنهيّاً عنها من مولى آخر.
الأمر الثاني: ما ذكره في كتاب مصباح الاُصول بقوله: إذا قال المولى: «إذقطعت بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة»، فلا يمكن للمكلّف الجمع بينهما فيمقام الامتثال؛ إذ الانبعاث نحو عملٍ والانزجار عنه في آن واحد محالٌ، وبعدعدم إمكان امتثالهما لا يصحّ تعلّق الجعل بهما من المولى الحكيم(1).
وفيه: ما عرفت في باب التزاحم من عدم ارتباط مرحلة تعلّق الحكمبمرحلة الامتثال، وعدم سراية الإشكال من هذه المرحلة إلى مرحلة تعلّقالحكم، ومعلوم أنّ متعلّق التكليف أمرٌ ممكن، ولاشكّ في أنّ صلاة الجمعة أمرٌممكن، والمكلّف قادرٌ على إيجادها وتركها، ولكن عدم قدرة المكلّف في مقامالامتثال، بلحاظ تعلّق القطع بوجوبها وترتّب الحرمة عليه لا يرتبط بمقامجعل الحكم، فلا يكشف عن امتناع التكليفين أو أحدهما، كما لا يخفى.
الأمر الثالث: أنّه يستلزم اجتماع المصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة في صلاةالجمعة، مع أنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد واجداً لهما معاً.
ونظير ذلك أنّ وجوب شيء كاشف عن محبوبيّته للمولى، وحرمته كاشفعن مبغوضيّته له، والحبّ والبغض أمران واقعيّان متضادّان، ولايمكن اجتماعهمفي شيء واحد.
(صفحه 61)
وفيه: أنّ هذا في صورة وحدة العنوان، وأمّا في صورة تعدّد العنوان فلمانع منه، مثل: اجتماعهما في الصلاة في الدار المغصوبة، فما هو متعلّق الوجوبوذو مصلحة ومحبوبيّة عبارة عن نفس صلاة الجمعة بعنوانها الأوّلي، وما هومتعلّق الحرمة وذو مفسدة ومبغوضيّة عبارة عن عنوان مقطوع الوجوب،وتصادقهما خارجاً في شيء واحد لا يوجب الاستحالة.
وذكر اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) في المسألة تفصيلاً، وهو مقتضى التحقيق،ومحصّل كلامه قدسسره : أنّ الشارع إذا أخذ القطع بالحكم تمام الموضوع للحكمالمضادّ تكون النسبة بين مقطوع الوجوب والوجوب الواقعي العموم من وجه،ثمّ إذا انطبق كلّ واحد من العنوانين على صلاة الجمعة فقد انطبق كلّ عنوانعلى مصداقه ـ أعني المجمع ـ وبما أنّ الحكم المترتّب على عنوان لا يتعدّى إلىالعنوان الآخر، فلا يصير الموضوع واحداً حتّى تحصل غائلة اجتماع الضدّين،بل ولا تسري الأحكام من عناوينها إلى مصاديقها الخارجيّة؛ إذ الخارجظرف السقوط لا العروض.
وأمّا إذا كان القطع جزء الموضوع فتنقلب النسبة بين العنوانين إلى العمومالمطلق، مثل أن يقول: «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وكانت بحسب الواقعواجبة تحرم عليك»، وعليه فلابدّ من إرجاع البحث إلى مسألة اجتماع الأمروالنهي، فإن خصّصنا محلّ النزاع هناك بما إذا كان بين العنوانين عموم من وجهـ كما هو الحقّ وعليه المحقّق القمّي قدسسره ـ فلابدّ من الحكم بالامتناع فيما نحن فيه؛لخروجه عن محلّ البحث، وأمّا إن عمّمنا النزاع بحيث يشمل ما إذا كان بينهمالعموم المطلق ـ كما عليه صاحب الفصول قدسسره ـ فلا امتناع حينئذٍ.
وفيه: أنّ تعميم محلّ النزاع يستلزم عدم بقاء مورد لمسألة حمل المطلق على
- (1) تهذيب الاُصول 2: 22 ـ 23.
(صفحه62)
المقيّد؛ إذ يمكن أن يقال في مثل: «اعتق رقبة» و«لا تعتق الرقبة الكافرة»، بأنّعتق الرقبة الكافرة مجمع للعنوانين لتعلّق الوجوب بعنوان عتق الرقبة،والحرمة بعنوان عتق الرقبة الكافرة، كما هو الحال في الصلاة في الدارالمغصوبة، فلا مجال لحمل المطلق على المقيّد.
ولا يخفى أنّ العموم المطلق على نوعين؛ إذ هو قد يكون نظير الرقبة والرقبةالكافرة، ومن البعيد الالتزام بدخول مثله في مسألة اجتماع الأمر والنهي، وقديتحقّق عنوانان متغايران، ولا ينتقل الإنسان من إطلاق أحدهما إلى الآخر،مثل: عنوان الحيوان والإنسان، ففي مثل ذلك ما قال به صاحب الفصول قابلٌللمساعدة، بخلاف ما إذا اُخذ في الخاصّ عنوان العامّ مع قيدٍ آخر، فإنّ لازمذلك أن تتعلّق إرادة جدّية للمولى بعتق الرقبة بلا قيد وشرط، وإرادته الجدّيةالاُخرى بعتق الرقبة الغير الكافرة، وهذا مخالف لما حقّقناه سابقاً، وما نحن فيهمن هذا القبيل، فإنّ متعلّق الوجوب هي صلاة الجمعة، ومتعلّق الحرمة أيضعبارة عن صلاة الجمعة مع قيد كونها مقطوعة الوجوب وبحسب الواقعواجبة، فلا يمكن هنا اجتماع الأمر والنهي.
وأمّا القسم الرابع ـ أي أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم المماثل ـ فقدذكر في وجه استحالته الاُمور المذكورة في القسم الثالث:
الأوّل: ما عن صاحب الكفاية قدسسره (1) من استلزامه لاجتماع المثلين، وهومحال.
وجوابه: أنّ الأحكام الشرعيّة اُمور اعتباريّة، ولا تجري فيها مقولة التضادّوالتماثل كما عرفت.
الثاني: لزوم اجتماع المصلحتين والإرادتين على شيء واحد، وهو محالٌ.