(صفحه 81)
تحصل له صفة الرجاء.
وعليه فبما أنّ الموافقة الالتزاميّة والتسليم القلبي فعل من الأفعال النفسانيّةلا تتحقّق إلاّ بعد تحقّق مبادئها وأسبابها، وليست تابعة لإرادة الإنسانواختياره حتّى يتعلّق التكليف اللزومي بها.
وتترتّب على هذا الكلام ثمرات:
الاُولى: أنّه لابدّ من إرجاع الكفر الجحودي الذي أشار إليه في القرآنبقوله: «وَجَحَدُواْ بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ»(1) إلى الإنكار الظاهري والجحداللّساني؛ إذ لا يمكن في ظرف القلب والنفس الاجتماع بين اليقين بوجود المبدوإنكاره، فمعناه إنكار ما اعتقد به في القلب لساناً.
الثانية: أنّ التشريع الحرام يعني إدخال ما ليس من الدين في الدين، ليسمعناه الاعتقاد والالتزام القلبي على كون هذا الحكم من الشارع مع العلم بعدمكونه منه، فإنّه غير معقول في نفسه ولا يتحقّق خارجاً، بل معناه هو التظاهربكون الحكم الفلاني من الشارع مع العلم بعدم كونه منه.
والحاصل: أنّ التكليف اللزومي لا يمكن أن يتعلّق بالموافقة الالتزاميّة، هذملخّص كلامه قدسسره .
وجوابه: أوّلاً: أنّه منقوض في موارد متعدّدة:
منها: مسألة الإيمان، فإنّ معناه إن كان مركّباً من الاعتقاد بالجنان والإقرارباللسان والعمل بالأركان، فكيف تعلّق التكليف به بقوله تعالى: «يَـآأَيُّهَالَّذِينَ ءَامَنُوآاْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِى» ونحو ذلك مع أنّه من الأفعال النفسانيّة؟!
ومنها: مسألة الإرادة، فإنّ الأفعال الجوارحيّة والاختياريّة لابدّ منصدورها عن إرادة، فهل يلزم على المكلّف إرادة الصلاة عند الزوال أم لا مع
(صفحه82)
أنّها من الاُمور النفسانيّة؟!
ومنها: مسألة الحبّ والمودّة كما في قوله تعالى: «قُل لاَّآ أَسْـءَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًإِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»(1)، فكيف تعلّق التكليف اللزومي بالأفعال النفسانيّةفي هذه الموارد ونظائرها؟!
وثانياً: أنّه يكفي في مقدوريّة متعلّق التكليف كونه مقدوراً مع الواسطة،كالواجبات المتوقّفة على المقدّمة، فلا مانع من القول في الموافقة الالتزاميّة؛ بأنّتحصيل علم الباري وإحاطته بالمصالح والمفاسد للإنسان يوجب الاعتقادوالالتزام بأنّ حكم الصلاة هو الوجوب، وحكم شرب الخمر هي الحرمة،فيصحّ تعلّق التكليف بها من هذا الطريق، فلا استحالة في البين ثبوتاً.
وسلّمنا أنّ التشريع ليس بمعنى الاعتقاد والالتزام القلبي على كون هذالحكم من الشارع، بل يكون بمعنى التظاهر بكونه من الشارع مع العلم بعدمكونه منه، ولكنّه لا يستلزم امتناع تعلّق التكليف بالموافقة الالتزاميّة، ولملازمة بينهما.
وسلّمنا أيضاً أنّ الكفر الجحودي لا يرجع إلى الالتزام القلبي على خلافاليقين الحاصل في نفس الكافر الجاحد، بل يرجع إلى الإنكار الظاهريوالجحد اللّساني، ولكن لا تكون نتيجة هذا المعنى امتناع تعلّق التكليفبالموافقة الالتزاميّة؛ إذ لا ارتباط بينهما.
وهكذا فيما قالوا: إنّ الملاك في تحقّق القضيّة هو اشتمال الكلام على نسبةيصحّ السكوت عليها، وهذا واضح في القضايا الصادقة، وأمّا القضايا الكاذبةفلا تشتمل على هذه النسبة؛ لأنّ المخبر الكاذب يعلم بعدم تحقّق النسبة بينالموضوع والمحمول في قوله: «زيد قائمٌ».
(صفحه 83)
وقال السيّد الفشاركي قدسسره في مقام الجواب عنه: بأنّ المخبر الكاذب يخلقتجزّماً قلبيّاً واعتقاداً نفسيّاً بتحقّق النسبة بين الموضوع والمحمول قبل إلقاءالخبر، ويقوم هذا التجزّم والاعتقاد المخلوق بالاختيار مقام التجزّم والاعتقادالواقعي الحقيقي في القضايا الصادقة، وبهذا يتمّ الملاك في تحقّق القضيّة.
وقد عرفت فيما ذكرنا اشتمال القضيّة على النسبة ليس بصحيح؛ لعدم المغايرةبينهما، فإنّ الملاك في القضيّة الحمليّة هو الاتّحاد والهوهويّة، مع أنّ النسبةتتحقّق بين الشيئين المتغايرين.
ولكن على فرض صحّة هذا المبنى لا يصحّ ما ذكره قدسسره فإنّ التجزّموالاعتقاد ليس من الاُمور الاختياريّة التابعة لإرادة الإنسان، ولايمكن لهخلق التجزّم بالإرادة، والملاك في صدق قضيّة في القضايا الكاذبة هو الإخبارعن الشيء بصورة الجزم والبتّ، وهذا الملاك يتحقّق في القضايا الصادقةوالكاذبة معاً، ولذا لو اُلقي الخبر بنحو الترديد فلا يتّصف بالصدق وإن كانالمخبر جازماً قلباً.
ولكن عدم تجزّم الاختلاقيّة ملاكاً في صدق قضيّة من القضايا الكاذبة ليكون ملازماً لعدم إمكان تعلّق التكليف بالموافقة الالتزاميّة.
المرحلة الثانية: في مقام الإثبات وقيام الدليل على وجوب الموافقةالالتزاميّة وعدمه على تقدير إمكانه، قالوا: إنّه لا يدلّ على وجوبها دليل منالشرع ولا من العقل، فإنّ الظاهر من الأدلّة هو الإطاعة والعصيان في مقامالعمل، ولا يستفاد منها الالتزام بالأحكام قلباً أصلاً.
والتحقيق: أنّ الموافقة الالتزاميّة إن لوحظت بالنسبة إلى الاعتقاد بأصلالدين والشريعة فلا يمكن الانفكاك بينهما إذا علم الإنسان بأنّ هذا الحكم قدصدر من المولى الذي لا يكاد يمكن أن يتحقّق منه الاشتباه والخطأ، وأنّ
(صفحه84)
جعله يكون حسب الملاك الواقعي، فكيف يمكن انفكاك هذا العلم عن الموافقةالالتزاميّة؟! بل لابدّ منها بمقتضى حكم العقل، فلا يتصوّر إيجاب صلاة الجمعةـ مثلاً ـ من الشارع بدون إيجاب الاعتقاد القلبي عليه والموافقة الالتزاميّةوعدم الاعتقاد به قلباً، ولا محالة أنّه كاشف عن النقص والخلل في اعتقادالإنسان بالصفات الثبوتيّة والسلبيّة للباري تعالى.
وإن لوحظت بالنسبة إلى جريان الاُصول العمليّة في أطراف العلم الإجماليفهي مسألة اُخرى.
بيان ذلك: أنّه ذكر بعنوان ثمرة البحث في وجوب الموافقة الالتزاميّة أنّالمانع عن جريان الاُصول فيها هو لزوم المخالفة القطعيّة مع المعلوم بالإجمال إنلم نقل بمانعيّة نفس العلم، ولكنّه قد يستلزم ذلك كما في استصحاب طهارةالإناءين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، فإنّ معاملة الطهارة فيهما توجبالمخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال، وقد لا يستلزم ذلك كما في استصحابنجاسة الإناءين مع العلم الإجمالي بطهارة أحدهما؛ إذ الحكم بنجاستهما ليستلزم المخالفة القطعيّة معه، إلاّ أنّه يتحقّق هنا المخالفة الالتزاميّة، فهي مانعةمن جريان الاُصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي على القول بوجوبالموافقة الالتزاميّة.
ولكنّ التحقيق: أنّ ترتّب هذه الثمرة ليس بصحيح، فإنّ الموافقة الالتزاميّةعلى القول بلزومها تتبع كيفيّة تعلّق العلم بالحكم الشرعي في الخصوصيّات،فإذا ثبت الحكم بحلّيّة الشيء المشكوك الحلّيّة والحرمة استناداً إلى قاعدةالحلّية فلابدّ من الالتزام بحلّيّته ظاهراً، وهكذا إذا ثبت بالاُصول العمليّةكالاستصحاب، وإذا اُحرز خمريّة مائع تفصيلاً فلابدّ من الالتزام بحرمتهبالخصوص، وإذا علم إجمالاً أنّ أحد هذين الإناءين خمرٌ لابدّ من الالتزام
(صفحه 85)
بحرمة أحدهما بحسب الواقع.
وعلى هذا تكون الموافقة الالتزاميّة في مستصحبي النجاسة بالالتزامبنجاستهما ظاهراً، وطهارة أحدهما بحسب الحكم الواقعي، وفي مستصحبيالطهارة بالالتزام بطهارتهما ظاهراً، ونجاسة أحدهما بحسب الحكم الواقعي،فلا تتحقّق المخالفة الالتزاميّة في مستصحبي النجاسة.