(الصفحة 113)
ولا يخفى ما في هذا الايراد من المناقشة فانّ الظاهر من عدم وجوب الغسل انّما هو عدم النجاسة كما انّا استكشفنا النجاسة نوعاً من الأمر بالغسل عنه فكما انّ الأمر بالغسل كاشف عن النجاسة كذلك نفي وجوبه دليل على عدمها كما لا يخفى.
وهنا تفصيل ثالث منسوب إلى ابن الجنيد (قدس سره) لا في خصوص الدم بل في أكثر النجاسات وهو التفصيل بين ما دون الدرهم من البول والدم وغيرهما من الأعيان النجسة سوى دم الحيض والمني وبين غيره أي قدر الدرهم وما فوقه، والظاهر انّه اعتمد في الحكم بعدم نجاسة ما دون الدرهم على الأخبار الواردة في جواز الصلاة فيما دون الدرهم من الدم والعفو عنه بإلغاء الخصوصية عن الدم واسراء الحكم إلى غيره من النجاسات سوى دم الحيض والمني.
ويرد عليه:
أوّلاً: انّ الأخبار الدالّة على العفو عنه في الصلاة لا تدلّ على عدم نجاسته فانّها صريحة في العفو عن الدم القليل في الصلاة وظاهر عنوان «العفو» انّه نجس قد أغمص عنه في الصلاة.
وثانياً: انّ إلغاء الخصوصية من تلك الأخبار حتّى بالنسبة إلى العفو فضلاً عن عدم النجاسة على تقدير دلالتها عليه لا وجه له بل لا يكون إلاّ محض قياس كما هو ظاهر فهذا التفصيل كالأولين لا ينبغي المصير إليه بوجه.
بقي في هذا الأمر فروع:
الفرع الأوّل: انّ دم ما لا نفس له كالسمك ونحوه طاهر، والدليل على الطهارة امّا على ما اخترناه من عدم ثبوت اصالة نجاسة الدم فواضح لأنّه مع عدم الدليل على النجاسة يكون المرجع هي قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية أيضاً.
وامّا على مسلك من جعل الأصل في الدم النجاسة إلاّ ما خرج بدليل فقد
(الصفحة 114)
استدلّ على طهارته وخروجه عن ذلك الأصل بوجوه:
الأوّل: الإجماع فانّه انعقد على طهارة دم ما لا نفس له.
وفيه انّه على تقدير تحقّقه ـ لا يكون إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام)لأنّه يحتمل ـ قوياً ـ أن يكون مستند المجمعين الآية الشريفة التي يأتي البحث عنها أو بعض الوجوه الاُخر الآتية مع انّ المحكي عن الشيخ (قدس سره) انّه قال بنجاسته والعفو عنه في الصلاة.
الثاني: قوله تعالى في الآية الشريفة المذكورة: (أو دماً مسفوحاً) فإنّ تقييد الدم بكونه مسفوحاً ظاهر في اختصاص النجاسة به والمراد من المسفوح هو السائل منه.
وفيه أوّلاً ما عرفت من انّه لم يثبت كون المراد به ذلك بل يحتمل أن يكون المراد به هو ما يخرج بدفع وقوّة لا مطلق دم الحيوان الذي له نفس سائلة.
وثانياً: انّ الآية مسوقة لبيان نجاسة الدم المسفوح لا عدم نجاسة الدم غير المسفوح إلاّ على تقدير القول بثبوت مفهوم الوصف وحجّيته ونحن لا نقول به.
الثالث: الأخبار الدالّة على نفي البأس عن بعض ما لا نفس له وهي كثيرة:
مثل رواية السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: انّ عليّاً (عليه السلام) كان لا يرى بأساً بدم ما لم يذك يكون في الثوب فيصلّي فيه الرجل، يعني دم السمك. ولو كان كلمة التفسير: «يعني دم السمك» من الإمام (عليه السلام) يكون الظاهر منها طهارة دم السمك، ولكنّه يحتمل أن تكون من السكوني الراوي عن الإمام (عليه السلام) كما انّه يحتمل على التقدير الأوّل أن يكون نفي البأس عن صلاة الرجل فيه لأجل العفو عنه لا طهارته فتدبّر.
ورواية محمد بن ريّان قال: كتبت إلى الرجل (عليه السلام) هل يجري دم البق مجرى دم
(الصفحة 115)
البراغيث؟ وهل يجوز لأحد أن يقيس بدم البق على البراغيث فيصلّي فيه؟ وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به؟ فوقع (عليه السلام) : يجوز الصلاة والطهر منه أفضل.
ورواية غياث عن جعفر عن أبيه قال: لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف.
ورواية الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام): ما تقول في دم البراغيث؟ قال: ليس به بأس، قلت: إنّه يكثر ويتفاحش؟ قال: وإن كثر.
وفيه انّ هذه الأخبار لا تدلّ على الحكم الكلّي فإنّ موردها البق والبراغيث والحكم بطهارة دمهما لا دلالة فيه على طهارة كل ما لا نفس له لعدم جواز التعدّي عنه وعلى فرضه فالتعدّي إلى مثل السّمك ممّا له لحم مشكل جدّاً. نعم لو ثبت كون التفسير في رواية السكوني من الإمام (عليه السلام) وثبتت دلالتها على الطهارة يمكن الحكم بالعموم على تأمّل فيه أيضاً لكن الأوّل غير ثابت وإن كان الثاني ثابتاً ظاهراً وعليه فيشكل الحكم بنحو العموم في مقابل الأصل الأوّلي وهو نجاسة الدم مطلقاً بل اللازم الاقتصار على مقدار دلّ الدليل عليه من التخصيص والتقييد فتأمّل.
الفرع الثاني: بناء على طهارة دم ما لا نفس له ـ امّا لقيام الدليل عليها وامّا لعدم ثبوت كون الأصل في الدم النجاسة ولم يقم دليل على نجاسته ـ لو شكّ في دم انّه ممّا له نفس سائلة أو ممّا لا نفس له كذلك فتارة تكون الشبهة بالنحو الكلّي بمعنى انّه لا يعلم انّ الحيوان الذي يكون هذا دمه ممّا له نفس سائلة أم لا كدم الحية والتمساح واُخرى بغير هذا النحو بمعنى انّه لا يعلم انّ هذا الدم هل يكون من الحيوان الذي له نفس سائلة كالشاة أو ممّا لا نفس له كالسمك والحكم في كلا القسمين هي الطهارة.
امّا في القسم الثاني فواضح لأنّه من الشبهة الموضوعية محضاً والحكم فيها عند الدوران بين النجاسة والطهارة هو الرجوع إلى اصالة الطهارة فإذا رأى في ثوبه دماً
(الصفحة 116)
واحتمل انّه منه أو من البق والبرغوث يحكم فيه بالطهارة.
وامّا في القسم الأوّل: فعلى تقدير عدم ثبوت النجاسة لمطلق الدم يصير المقام من قبيل الشبهة الموردية لدليل النجاسة والحكم فيه أيضاً الرجوع إلى اصالة الطهارة وعلى تقدير ثبوتها وقيام الدليل على الطهارة فيما لا نفس له يصير المقام من قبيل الشبهة المصداقية للمخصص بناء على كون دليل النجاسة دالاًّ عليها بنحو العموم فيجري فيه ما قيل في التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص ـ جوازاً ومنعاً ـ كما انّه على تقدير كون دليل النجاسة دالاًّ عليه بنحو الإطلاق دون العموم ـ كما هو الظاهر على تقدير ثبوته ـ يصير المقام من قبيل التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقية للمقيّد وهو أضعف من التمسّك بالعامّ لأنّ التخصيص لا يوجب حصول عنوان في العام بخلاف التقييد والتفصيل في محلّه.
الفرع الثالث: العلقة المستحيلة من المني وقد احتاط في المتن بالاجتناب عنها وإن كانت في البيضة ثمّ رجح الطهارة في البيضة، والمحكي عن الشيخ (قدس سره) في الخلاف انّه ادّعى الإجماع على نجاسة العلقة المستحيلة من المني واستدلّ لها أيضاً بإطلاق الأدلّة، ويظهر من المحقّق والعلاّمة وبعض آخر التمسّك لها بأنّها دم أو دم ذي نفس، وعن الشهيد والمحقّق الأردبيلي وكاشف اللثام الترديد فيه، وعن صاحب الحدائق الجزم بالطهارة.
وكيف كان فإن قلنا: بأنّ الأصل في الدم النجاسة فالحكم بنجاسة العلقة لا يحتاج إلى شيء آخر لصدق الدم عليه، وامّا إذا لم نقل بذلك كما اخترناه فيشكل الحكم بنجاسة العلقة لعدم قيام دليل عليها لا بنحو العموم ولا بنحو الخصوص.
إن قلت: إنّ العلقة جزء من الحيوان فيحكم عليها بالنجاسة بمقتضى الأدلّة الدالّة على نجاسة دم الحيوان الذي له نفس سائلة كالإجماع ونحوه.
(الصفحة 117)
قلت: إن كان المراد شمول معقد الإجماع لها فهو غير معلوم لأنّ الظاهر من دم الحيوان غيرها فانّها نطفة تبدّلت بالعلقة فلا تكون دم الاُمّ عرفاً بل هو شيء مستقل وانّما يكون جوف الحيوان وعاء تكوّنه وظرف وجوده كما انّه ليس دم الحيوان الذي تنقلب إليه بعد حين وعليه فلا دليل على نجاستها خصوصاً العلقة في البيضة فإنّ إطلاق العلقة عليها غير ظاهر فالأقوى طهارتها كما انّ الظاهر طهارة العلقة وإن كان الأحوط الاجتناب نظراً إلى كونها دماً ومن البعيد أن لا يكون دم الحيوان أصلاً وإن كان متبدّلاً من المني والنطفة.
الفرع الرابع: الدم الذي يوجد في البيض وقد قوّى في المتن طهارته واحتاط بالاجتناب عنه وعن جميع ما فيه إلاّ مع وجود الحائل بينه وبينه، ولا وجه للحكم بنجاسته إلاّ كون الأصل فيما يصدق عليه الدم هي النجاسة إذ لا دليل عليها بالخصوص وقد عرفت عدم تمامية هذا الأصل وعليه فلا وجه للحكم بنجاسته وإن كان الدم صادقاً عليه عرفاً والفرق بينه وبين العلقة مع اشتراكهما في صدق عنوان الدم عليه انّ دم البيض لا مجال لاحتمال كونه دم الحيوان أصلاً مع انّ صدق الدم عليه غير واضح بخلاف العلقة التي تكون دماً حقيقة ويحتمل بل ربّما يقال بكونه دم الحيوان لكن الأحوط الاجتناب عن دم البيض أيضاً بل عن جميع ما في البيض إلاّ مع وجود الحاجب المانع عن السراية كما إذا كان الدم في عرق أو تحت جلدة حائلة وإن كانت رقيقة فانّه في هذه الصورة لا ينجس معه البياض إلاّ إذا حصلت السراية بتمزّق الحائل.
وغير خفي انّ البحث هنا في الطهارة والنجاسة لا في حلية الأكل وحرمته فالحكم بالطهارة لا يلازم جواز الأكل فمن الممكن أن يكون أكل هذا الدم حراماً لأجل كونه خبيثاً أو قيام الدليل على حرمة أكل الدم مطلقاً فلا ينبغي الخلط بين